كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

كان، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤوب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان.
قالَ الله سبحانه وتعالى: اذْهَبْ ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34، ص: 77] ، وقيل: هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن يرى جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ وضل عن الحق فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية، وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب، وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال: عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم: إن جهنم جزاؤكم، ورد بأنه يخرج حينئذ عن الالتفات، وقال بعض المحققين: إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ.
جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه، وعلى ذلك قوله:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر، وانتصب جَزاءً على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما.
وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جَزاؤُكُمْ بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق، وجوز كونه حالا موطئة لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف:، طه: 113، الزمر: 28، فصلت: 3، الشورى: 7، الزخرف: 3] ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزونه محذوفا والعالم الفعل، وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء، وقال الطيبي: قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال: الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا، وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه، ومثله جعله حالا عن الفاعل، وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه وَاسْتَفْزِزْ أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير:
إذا استغاث بشيء فز غيطلة ... خاف العيون فلم تنظر به الحشك
والواو على ما في البحر للعطف على اذهب، والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء مَنِ اسْتَطَعْتَ أي الذي استطعت أن تستفزه مِنْهُمْ فمن موصول مفعول اسْتَفْزِزْ ومفعول اسْتَطَعْتَ محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار.

الصفحة 105