كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له. واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه، هذا وهاهنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما، الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه:
فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة، وإن كان الثاني فكيف قال: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب.
والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولدا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت
فيقال له: اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار
، وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وربما يقال: إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة، فقد حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري: ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له: ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين.
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع، والجواب أما على مذهبنا فظاهر، وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم: إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب، وأنا أقول: إن إبليس ليس مانعا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم والله تعالى أعلم.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ مبتدأ وخبر، وقيل الموصول صفة رَبُّكُمُ وهو صفة لقوله تعالى الَّذِي فَطَرَكُمْ أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه، وفيه ما فيه، وأصل الإزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الإجزاء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه: فَلا يَمْلِكُونَ

الصفحة 108