كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لم يقول: لم كان الأمر كذلك؟ فقال عز قائلا: قُلْ كُلٌّ أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة.
وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى: فَرَبُّكُمْ الذي برأكم متخالفين أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه.
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريبا، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا: إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض:
إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين.
وقال بعض المتأخرين (¬1) من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها،
وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم»
،
وفي الأثر «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»
أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصو أو لبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية
¬__________
(¬1) هو الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال اه منه.

الصفحة 143