كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:
ولولا المزعجات من الليالي ... ما ترك القطا طيب المنام
ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولذا قيل:
الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر، وانظر إلى طبيعة (¬2) التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن. فقال عمر: لم أر آية أرجى من التي فيها غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] قدم الغفران قبل قبول التوبة، وقال عثمان: لم أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] .
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: لم أر أرجى من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية،
وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسئول عنه الروح الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص
¬__________
(¬2) قوله: إلى طبيعة التي تقتضي إلخ كذا في نسخة المؤلف وفيه حذف الموصوف والأصل إلى طبيعة الأرض التي تقتضي إلخ وانظر.

الصفحة 144