كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قُلِ الرُّوحُ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء مِنْ أَمْرِ رَبِّي كلمة مِنْ تبعيضية، وقيل:
بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
أفعنيتنا أم قومك قال: كلا قد عنيت قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ- إلى قوله سبحانه- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

[لقمان: 27- 28] وكأنه صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أن المراد في الآية- تبيانا لكل شيء- من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي.
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ [الكهف: 109] الآية
، ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر،
وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] وساعة تقول:
هذا فنزل وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ

إلخ، ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال:
الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أنا لروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات

الصفحة 146