كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.
وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح وسبيل البخاري عنه فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث (¬1)

و «رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر.
ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك. ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:
54] ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن الماهية: والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم (¬2) من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم.
وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها: البحث الأول في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله أنا وأبطل ذلك
¬__________
(¬1) وشرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة وطبعناها والحمد لله.
(¬2) قوله ولا يلزم إلخ كذا بخط مؤلفه وانظر.

الصفحة 147