كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29، ص: 72] وقوله سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: 171] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية، ومنها
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النذير العريان»
ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن
وفي رواية «على صورته»
،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.
«البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه» أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قيل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى، واستدل لذلك بما
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»
قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الأخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة.
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما
قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»
ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] فليفهم.
وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا، ويقال هنا: إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن المادة هاهنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال: إن البدن الإنساني لما استدعي لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من

الصفحة 149