كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانا كنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنك عما نراك تبتغي فإنك تقول بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا: فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك مما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم: لن نؤمن لكن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم
أمورا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما يخوفهم به من العذاب فو الله لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم نرقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعديهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ [الرعد: 30] الآية وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31]
الآية اه والله تعالى أعلم.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكيت أباطيلهم أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول منع وقوله تعالى: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إِلَّا أَنْ قالُوا فاعل منع أي إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم.
وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا قاله بعض المحققين، وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلّى الله عليه وسلّم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتا وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر.
والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام

الصفحة 162