كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

لما قاله الله تعالى عليه الصلاة والسلام يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يقومون من قبورهم عَلى وُجُوهِهِمْ في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم
، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر.
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48]
ويشهد له ما
أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلخ فقال: حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم
،
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم»
وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الثاني لأن القرآن يفسر بعضهم بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف خائبا عن أمر مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحرهم يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآنية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل والقال، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى.
واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع.
نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صما عما مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مَأْواهُمْ أي مستقرهم جَهَنَّمُ على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون استئنافا، وقوله سبحانه كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو البقاء، وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال الطبرسي: هو حال

الصفحة 166