كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

الدمشقي: الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية بعثته صلّى الله عليه وسلّم إثر تحقيق حقيقة القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال.
وَقُرْآناً نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فَرَقْناهُ فهو من باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي.
وقال ابن عطية: هو مذهب سيبويه، وقال الفراء: هو منصوب بأرسلناك أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أَرْسَلْناكَ.
وقال أبو البقاء: وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه آتَيْنا السابق أو أَرْسَلْناكَ وجملة فَرَقْناهُ في موضع الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس بينّا حلاله وحرامه، وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه «فرقّناه» بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق، وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي عَلى مُكْثٍ يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة
،
وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين
،
وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة
وفي أخرى في خمس وعشرين
، وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنة صلّى الله عليه وسلّم.

الصفحة 177