كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن وقتادة، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قال ابن عباس وغيره: أي سجنا وأنشد في البحر قوله لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم (¬1) ... جن على باب الحصير قيام
فإن كان اسما للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره، وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد، قال الراغب: كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ، وجاء الحصير بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال: وتسميته بذلك إما لكونه محصورا نحو محجب وإما لكونه حاصرا أي مانعا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه اه وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفا يدرك بالتأمل، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه، وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه، وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى صلّى الله عليه وسلّم يَهْدِي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام لِلَّتِي أي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللتي صفة لموصوف حذف اختصارا وقدره بعضهم الحالة أو الملة، وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى، وأَقْوَمُ أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد.
وقال أبو حيان: الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال الله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 3] وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] اه. وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع.
وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والإخوان وَيُبَشِّرُ بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ التي شرحت فيه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة أعمالهم أَجْراً كَبِيراً بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرا فصاعدا، وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين، وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا مؤلما، وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان
¬__________
(¬1) المقامة: الجماعة وعلى ذلك قوله: وفيهم مقامات حسان وجوههم اه منه.

الصفحة 22