كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالإتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز أما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك أنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر.
وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا: إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا وأوجبوا الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى
روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته،
وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74] حيث قال ذلك ولم يقل أوحي إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] الآية بقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117] الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلها آخر بعد ما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل.
وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم:
لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول حمل الرسول على العقل، والثاني تخصيص العموم بأن يقال المراد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال: والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه.
وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 50] ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه.
وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب

الصفحة 38