كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

نار ضميهم فتأخذهم النار»
وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب.
فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها
.
وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم: ابرزي ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم: ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى:
قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار»
إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة: إنها وردت من عدّة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا ولا كتفى به. وقيل في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعيرة والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير.
وأيضا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية.
وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 50] توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الآخر ليس بحجة، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [المائدة: 165] على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] ، وقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها (¬1) غافِلُونَ [الأنعام: 131] محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل: بوجوده في أمريقا (¬2) وهي
¬__________
(¬1) وفسرت الغفلة بغفلة إهمال الحجة، وقيل: غافلون بسبب خفائها تأمل اه منه.
(¬2) الذي رأيته في بعض كتب المتأخرين أن أول من كشف عنها أماريكوس القبطان وبه سميت ثم قيل فيها: أمريكا تخفيفا اه منه.

الصفحة 40