كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الإقدام وأثرها، وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ. وتعقب بأن الصحيح خلافه.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور. وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور، وقيل: المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت:
ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس «من قفا مؤمنا بما ليس فيه- يريد شينه به- حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وقيل: المراد النهي عن الكذب، أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، واختار الإمام العموم قال: إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد، واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به. وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بأمارات لا تفيد إلا الظن وأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات وأروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن، ومن نظر ولو بمؤخر العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر»
فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن، وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فها هنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى: لا تَقْفُ الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن، وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى:
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: 148] والمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علماء وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس، وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل، وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي

الصفحة 71