كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعة لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط.
والسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها تأتي من أغلبهم.
والسابع أنه صرف الخطاب عنه صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها، وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته صلّى الله عليه وسلّم وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل.
والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي، وكذا لم يخاطبه بأمر بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا، وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده، وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته صلّى الله عليه وسلّم للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام.
والتاسع لعل التكاليف التي خوطب صلّى الله عليه وسلّم بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير اه.
ويرد على قوله في الأول فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك، قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب اه. وكأنه أحسن الله تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب، ويرد أيضا على قوله: وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع تلك الأمور فلا شك إن بعض ما عده في القسم الثالث كالوزن بالقسطاس المستقيم ترك القيام به أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع.

الصفحة 76