كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

ومفعول صَرَّفْنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى، وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه، ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي. أي أوقعنا التصريف فيه. وقرىء «صرفنا» بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التصريف إِلَّا نُفُوراً عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: 50] من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة، والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه وتعالى في الوجود آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي المشركون قاطبة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان، وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له في حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لو حظ الأول حقه الغيبة وإذا لو حظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤوا فيما بعد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله لهم، والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة.
إِذاً لَابْتَغَوْا جواب عن قولهم: إن مع الله سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق سَبِيلًا بالمغالبة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك، وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريره في محله، وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقرب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: 57] وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. قيل ولَوْ على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية.
واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه: سُبْحانَهُ فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون.
وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وَتَعالى متباعدا عَمَّا يَقُولُونَ من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات عُلُوًّا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] كَبِيراً بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي.

الصفحة 79