كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: حال بيني وبينها جبريل عليه السلام
، وذكر الإمام أنه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى: في سورة [الكهف:
57] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وقوله سبحانه في [النحل: 108] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله جل وعلا في سورة [حم الجاثية: 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام
والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت
فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الأخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، ووَحْدَهُ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيجاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد.
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ هربوا أو نفروا نُفُوراً فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما.

الصفحة 85