كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن.
يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار
، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر، والباء الأولى متعلقة بأعلم، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم.
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف لأعلم لا مفعول به، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالأخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم.
والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم، وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر، ونَجْوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل. والظَّالِمُونَ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن وجد منكم الإتباع فرضا، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجن فهو كقولهم: إن هو إلا رجل مجنون، وقيل: جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر، وجعل بعضهم مَسْحُوراً بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر، وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر (¬1) أي رئة، ومن هذا قول امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
وأراد نغذى، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: إنه لا يناسب قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة ساحر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فَضَلُّوا في جميع ذلك عن منهاج الحاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
¬__________
(¬1) قوله أو ذا سحر بتثليث السين وسكون الحاء وقد تفتح الرئة اه منه.

الصفحة 86