كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

وقال الطيبي: لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل: 37] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذ قوله تعالى: إِلى رَبِّهِمُ بأقرب وهو كما ترى.
وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه: إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه.
ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه.
ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف، وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر الجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر، وجوز أبو البقاء كون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يَدْعُونَ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان: فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه، وقوله تعالى: وَيَرْجُونَ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رَحْمَتَهُ تعالى وَيَخافُونَ عَذابَهُ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم، والجملة تعليل لقوله سبحانه: وَيَخافُونَ عَذابَهُ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه
ففي الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال: لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهارا للاستغناء

الصفحة 95