كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
قَول فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين توفّي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأبتاه، من ربه مَا أدناه، وأبتاه إِلَى جِبْرِيل ننعاه، وَفِي الصَّحِيح أَيْضا فِي قصَّة الرجل الَّذِي مَاتَ وَدفن لَيْلًا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَفلا كُنْتُم آذنتموني؟) فَهَذِهِ الْأَحَادِيث دَالَّة على جَوَاز النعي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن النعي الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ نعي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ: وَكَانَت عَادَتهم إِذا مَاتَ مِنْهُم شرِيف بعثوا رَاكِبًا إِلَى الْقَبَائِل يَقُول: نعا يَا فلَان، أَو: يَا نعاء الْعَرَب، أَي: هَلَكت الْعَرَب بِهَلَاك فلَان. وَيكون مَعَ النعي ضجيج وبكاء، وَأما إِعْلَام أهل الْمَيِّت وأصدقائه وقرابته فمستحب على مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. وَاعْترض بِأَن حَدِيث النَّجَاشِيّ لم يكن نعيا، إِنَّمَا كَانَ مُجَرّد إِخْبَار بِمَوْتِهِ، فَسمى نعيا لشبهه بِهِ فِي كَونه إعلاما، وَكَذَا القَوْل فِي جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، ورد بِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة على أَن حَدِيث النَّجَاشِيّ أصح من حَدِيث حُذَيْفَة وَعبد الله. فَإِن قلت: قَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا نعي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّجَاشِيّ وَصلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْد بعض النَّاس على غير الْإِسْلَام فَأَرَادَ إعلامهم بِصِحَّة إِسْلَامه (قلت) نعيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعفراً وَأَصْحَابه يرد ذَلِك، وَحمل بَعضهم النَّهْي على نعي الْجَاهِلِيَّة الْمُشْتَمل على ذكر المفاخر وَشبههَا.
الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يُصَلِّي على الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِمَوْتِهِ فِي الْمَسْجِد ثمَّ خرج بِالْمُسْلِمين إِلَى الْمصلى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، أَنه لَا يصلى على ميت فِي مَسْجِد جمَاعَة، وَبِه قَالَ مَالك وَابْن أبي ذِئْب، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر: لَا بَأْس بهَا إِذا لم يخف تلويثه، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ (أَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما توفّي أمرت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِدْخَال جنَازَته الْمَسْجِد حَتَّى صلى عَلَيْهَا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَت: هَل عَابَ النَّاس علينا مَا فعلنَا؟ فَقيل لَهَا: نعم، فَقَالَت: مَا أسْرع مَا نسوا، مَا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة سُهَيْل بن الْبَيْضَاء إلاَّ فِي الْمَسْجِد) . رَوَاهُ مُسلم، وَاحْتج أَصْحَابنَا من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن صَالح مولى التومة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على ميت فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَلَفظه: (فَلَيْسَ لَهُ شَيْء) ، وَقَالَ الْخَطِيب الْمَحْفُوظ: (فَلَا شَيْء لَهُ، وَرُوِيَ (فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) ، وَرُوِيَ: (فَلَا أجر لَهُ) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة: فَلَا أجر لَهُ، خطأ فَاحش، وَالصَّحِيح: فَلَا شَيْء لَهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِلَفْظ: (فَلَا صَلَاة لَهُ) . فَإِن قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) هَذَا الحَدِيث وعده من مُنكرَات صَالح، ثمَّ أسْند إِلَى شُعْبَة أَنه كَانَ لَا يروي عَنهُ وَينْهى عَنهُ، وَإِلَى مَالك: لَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَة، وَإِلَى النَّسَائِيّ أَنه قَالَ فِيهِ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : اخْتَلَط بِآخِرهِ وَلم يتَمَيَّز حَدِيثه من قديمه فَاسْتحقَّ التّرْك، ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل، وَكَيف يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد صلى على سُهَيْل بن الْبَيْضَاء فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: صَالح مُخْتَلف فِي عَدَالَته، كَانَ مَالك يجرحه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة. أَحدهَا: أَنه ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تفرد بِهِ صَالح مولى التومة وَهُوَ ضَعِيف. الثَّانِي: أَن الَّذِي فِي النّسخ الْمَشْهُورَة المسموعة من سنَن أبي دَاوُد: فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، فَلَا حجَّة فِيهِ. الثَّالِث: أَن اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: على، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) . أَي: فعلَيْهَا، جمعا بَين الْأَحَادِيث. قلت: الْجَواب عَمَّا قَالُوهُ من وُجُوه:
الأول: أَن أَبَا دَاوُد روى بِهَذَا الحَدِيث وَسكت عَنهُ، فَهَذَا دَلِيل رِضَاهُ بِهِ، وَأَنه صَحِيح عِنْده. الثَّانِي: أَن يحيى بن معِين الَّذِي هُوَ فيصل فِي هَذَا الْبَاب قَالَ: صَالح ثِقَة إلاَّ أَنه اخْتَلَط قبل مَوته، فَمن سمع مِنْهُ قبل ذَلِك فَهُوَ ثَبت حجَّة، وَمِمَّنْ سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط: ابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب. الثَّالِث: قَالَ ابْن عبد الْبر: مِنْهُم من يقبل عَن صَالح مَا رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي ذِئْب خَاصَّة. الرَّابِع: أَن غَالب مَا ذكر فِيهِ تحامل من ذَلِك قَول النَّوَوِيّ: إِن الَّذِي فِي النّسخ الْمَشْهُورَة المسموعة من سنَن أبي دَاوُد: فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يردهُ قَول الْخَطِيب الْمَحْفُوظ: (فَلَا شَيْء لَهُ) وَقَول السرُوجِي؛ وَفِي الاسرار (فَلَا صَلَاة لَهُ) وَفِي المرغيناني: (فَلَا أجر لَهُ) وَلم يذكر ذَلِك فِي كتب الحَدِيث يردهُ مَا ذَكرْنَاهُ من رِوَايَة ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (فَلَا صَلَاة لَهُ) . وَقَالَ الْخَطِيب: (فَلَا أجر لَهُ) فلعدم إطلاعه فِي هَذَا الْموضع جازف فِيهِ، وَمن تحاملهم جعل: اللَّام، بِمَعْنى: على، بالتحكم من غير دَلِيل وَلَا دَاع إِلَى ذَلِك، وَلَا سِيمَا أَن الْمجَاز عِنْدهم ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة، فَلَا ضررة هَهُنَا. وَأقوى مَا يرد كَلَامه هَذَا رِوَايَة ابْن أبي شيبَة:
الصفحة 20
318