كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

(فَلَا صَلَاة لَهُ) ، فَلَا يُمكن لَهُ أَن يَقُول: اللَّام، بِمَعْنى: على، لفساد الْمَعْنى. الْخَامِس: أَن قَول ابْن حبَان: هَذَا بَاطِل، جرْأَة مِنْهُ على تبطيل الصَّوَاب، فَكيف يَقُول هَذَا القَوْل وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسكت عَنهُ؟ فَأَقل الْأَمر أَنه عِنْده حسن لِأَنَّهُ رَضِي بِهِ، وحاشاه من أَن يرضى بِالْبَاطِلِ. السَّادِس: مَا قَالَه الجهبذ النقاد الإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، مُلَخصا، وَهِي أَن الرِّوَايَات لما اخْتلفت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب يحْتَاج إِلَى الْكَشْف ليعلم الْمُتَأَخر مِنْهَا، فَيجْعَل نَاسِخا لما تقدم، فَحَدِيث عَائِشَة إِخْبَار عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال الْإِبَاحَة الَّتِي لم يتقدمها شَيْء، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة إِخْبَار عَن نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي تقدمه الْإِبَاحَة، فَصَارَ نَاسِخا لحَدِيث عَائِشَة، وإنكار الصَّحَابَة عَلَيْهَا مِمَّا يُؤَكد ذَلِك. فَإِن قلت: من أَي قبيل يكون هَذَا النّسخ؟ قلت: من قبيل النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة، فَفِي مثل هَذَا يتَعَيَّن الْمصير إِلَى النَّص الْمُوجب للحظر، لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، والحظر طَار عَلَيْهَا، فَيكون مُتَأَخِّرًا. فَإِن قلت: فَلم لَا يَجْعَل بِالْعَكْسِ؟ قلت: لِئَلَّا يلْزم النّسخ مرَّتَيْنِ، وَهَذَا ظَاهر. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين الْحَدِيثين مُنَافَاة فَلَا تعَارض فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّوْفِيق؟ قلت: ظهر لَك صِحَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة؟ بالوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا فَثَبت التَّعَارُض (فَإِن قلت) مُسلم أخرج حَدِيث عَائِشَة وَلم يخرج حَدِيث أبي هُرَيْرَة قلت: لَا يلْزم من ترك مُسلم تَخْرِيجه عدم صِحَّته، لِأَنَّهُ لم يلْتَزم بِإِخْرَاج كل مَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ البُخَارِيّ، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك وَأَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا يَخْلُو من كَلَام، فَكَذَلِك حَدِيث عَائِشَة لَا يَخْلُو عَن كَلَام، لِأَن جمَاعَة من الْحفاظ مثل الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره عابوا على مُسلم تَخْرِيجه إِيَّاه مُسْندًا، لِأَن الصَّحِيح أَنه مُرْسل كَمَا رَوَاهُ مَالك والماجشون عَن أبي النَّضر عَن عَائِشَة مُرْسلا، والمرسل لَيْسَ بِحجَّة عِنْدهم. وَقد أول بعض أَصْحَابنَا حَدِيث عَائِشَة بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا صلى فِي الْمَسْجِد بِعُذْر مطر. وَقيل: بِعُذْر الِاعْتِكَاف، وعَلى كل: تَقْدِير الصَّلَاة على الْجِنَازَة خَارج الْمَسْجِد أولى وَأفضل، بل أوجب، لِلْخُرُوجِ عَن الْخلاف، لَا سِيمَا فِي بَاب الْعِبَادَات. وَلِأَن الْمَسْجِد بني لأَدَاء الصَّلَوَات المكتوبات فَيكون غَيرهَا فِي خَارج الْمَسْجِد أولى وَأفضل. فَإِن قلت: قَالُوا: خُرُوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَسْجِد إِلَى الْمصلى كَانَ لِكَثْرَة الْمُصَلِّين وللإعلام. قلت: نَحن أَيْضا نقُول صلَاته فِي الْمَسْجِد كَانَ للمطر أَو للاعتكاف كَمَا ذكرنَا.
الْوَجْه الثَّالِث فِيهِ: دَلِيل على أَن سنة هَذِه الصَّلَاة الصَّفّ كَسَائِر الصَّلَوَات، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مَالك بن هُبَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى عَلَيْهِ ثَلَاثَة صُفُوف فقد أوجب) ، مَعْنَاهُ: وَجَبت لَهُ الْجنَّة، أَو وَجَبت لَهُ الْمَغْفِرَة، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة الحكم بن فروخ، قَالَ: صلى بِنَا أَبُو الْمليح على حنازة فظننا أَنه كبر، فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم ولتحسن شفاعتكم، وَقَالَ أَبُو الْمليح: حَدثنِي عبد الله عَن إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَهِي مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: أَخْبرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا من ميت يُصَلِّي عَلَيْهِ أمة من النَّاس إلاَّ شفعوا فِيهِ، فَسَأَلت أَبَا الْمليح عَن الْأمة، قَالَ: أَرْبَعُونَ.
الْوَجْه الرَّابِع فِيهِ: حجَّة لمن جوز الصَّلَاة على الْغَائِب، وَمِنْهُم الشَّافِعِي وَأحمد. قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن كَانَ الْمَيِّت فِي الْبَلَد فَالْمَذْهَب أَنه لَا يجوز أَن يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يحضر عِنْده، وَقيل: يجوز، وَفِي الرَّافِعِيّ: يَنْبَغِي أَن لَا يكون بَين الإِمَام وَالْمَيِّت أَكثر من مِائَتي ذِرَاع، أَو ثلثمِائة تَقْرِيبًا.
فرع: عِنْدهم: لَو صلى على الْأَمْوَات الَّذين مَاتُوا فِي قَرْيَة وغسلوا فِي الْبَلَد الْفُلَانِيّ، وَلَا يعرف عَددهمْ، جَازَ. قَالَه فِي (الْبَحْر) . قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ صَحِيح، لَكِن لَا يخْتَص بِبَلَد، وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على ثُبُوته إلاَّ أَنه كَانَ يكتم إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ وَجب على الْمُسلمين أَن يصلوا عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه كَانَ بَين ظهراني أهل الْكفْر وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم بِحقِّهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يفعل ذَلِك، إِذْ هُوَ نبيه ووليه وأحق النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر الْغَيْب، فعلى هَذَا إِذا مَاتَ الْمُسلم بِبَلَد من الْبلدَانِ وَقد قضى حَقه من الصَّلَاة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يصلى عَلَيْهِ من كَانَ بِبَلَد آخر غَائِبا عَنهُ، فَإِن علم أَنه لم يصل عَلَيْهِ لعائق أَو مَانع عذر كَانَ السّنة

الصفحة 21