كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يقم الْمَسْجِد. قيل: وَهَذَا وهم، لِأَن الصَّحِيح فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم محجن. قَوْله: (فَلَمَّا أصبح) أَي: دخل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الصَّباح. قَوْله: (وَكَانَ اللَّيْل) بِرَفْع اللَّيْل، وَكَانَ تَامَّة، وَكَذَا كَانَ فِي: (كَانَت ظلمَة) . قَوْله: (أَن نشق) ، كلمة أَن مَصْدَرِيَّة أَي: كرهنا الْمَشَقَّة عَلَيْهِ. وَقَوله: (وَكَانَت ظلمَة) ، جملَة مُعْتَرضَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عِيَادَة الْمَرِيض، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، وَفِيه: جَوَاز دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَطاء (عَن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ بسراج، فَأخذ من قبل الْقبْلَة وَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها تلاءً لِلْقُرْآنِ، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) ، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرخّص أَكثر أهل الْعلم فِي الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف) بِإِسْنَادِهِ (عَن أبي ذَر، قَالَ: كَانَ رجل يطوف بِالْبَيْتِ يَقُول: أوه أوه. قَالَ أَبُو ذَر: فَخرجت لَيْلَة فَإِذا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْمَقَابِر يدْفن ذَلِك الرجل وَمَعَهُ مِصْبَاح) . وَفِيه: الْأذن بالجنازة والإعلام بِهِ، وَقد مر بَيَانه مَعَ الْخلاف فِيهِ. وَفِيه: تَعْجِيل الْجِنَازَة، فَإِنَّهُم ظنُّوا أَن ذَلِك آكِد من إيذانه. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر وَفِيه خلاف، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على هَذَا، أَي: الصَّلَاة على الْقَبْر عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: لَا يصلى على الْقَبْر، وَهُوَ قَول مَالك بن أنس، وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: إِذا دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلى على الْقَبْر. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: يصلى على الْقَبْر إِلَى شهر، وَقَالَ ابْن التِّين: جُمْهُور أَصْحَاب مَالك على الْجَوَاز خلافًا لأَشْهَب وَسَحْنُون فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِن نسي أَن يُصَلِّي على الْمَيِّت فَلَا يُصَلِّي على قَبره وليدع لَهُ. وَقَالَ ابْن قَاسم وَسَائِر أَصْحَابنَا: يصلى على الْقَبْر إِذا فَاتَت الصَّلَاة على الْمَيِّت، فَإِذا لم تفت وَكَانَ قد صلي عَلَيْهِ فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن وهب عَن مَالك: ذَلِك جَائِز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَعبد الله بن وهب وَابْن عبد الحكم وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَسَائِر أَصْحَاب الحَدِيث، وكرهها النَّخعِيّ وَالْحسن، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ وَاللَّيْث بن سعد، قَالَ ابْن الْقَاسِم: قلت لمَالِك: فَالْحَدِيث الَّذِي جَاءَ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ؟ قَالَ: قد جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَل، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَإِن دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلي على قَبره، وَلَا يخرج مِنْهُ وَيُصلي عَلَيْهِ مَا لم يعلم أَنه تفرق، هَكَذَا فِي (الْمَبْسُوط) ؛ وَإِذا شكّ فِي ذَلِك نَص الْأَصْحَاب على أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى وَعَائِشَة وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهل يشْتَرط فِي جَوَاز الصَّلَاة على قَبره كَونه مَدْفُونا بعد الْغسْل؟ فَالصَّحِيح أَنه يشْتَرط، وروى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد: أَنه لَا يشْتَرط، وَفِي (الْمُحِيط) : لَو صلى عَلَيْهِ من لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ يُصَلِّي على قَبره، وَيُصلي عَلَيْهِ قبل أَن يتفسخ، وَالْمُعْتَبر فِي ذَلِك أكبر الرَّأْي، أَي: غَالب الظَّن، فَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه تفسخ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه لم يتفسخ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِذا شكّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام وَبعدهَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وللشافعية سِتَّة أوجه. أَولهَا: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام. ثَانِيهَا: إِلَى شهر، كَقَوْل أَحْمد. ثَالِثهَا: مَا لم يبل جسده. رَابِعهَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من أهل الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. خَامِسهَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من أهل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. سادسها: يُصَلِّي عَلَيْهِ أبدا، فعلى هَذَا تجوز الصَّلَاة على قُبُور الصَّحَابَة وَمن قبلهم الْيَوْم، وَاتَّفَقُوا على تَضْعِيفه، وَمِمَّنْ صرح بِهِ: الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي والفوراني وَالْبَغوِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ. فَإِن قلت: فِي البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان سِنِين. قلت: أجَاب السَّرخسِيّ فِي (الْمَبْسُوط) وَغَيره: أَن ذَلِك مَحْمُول على الدُّعَاء، وَلكنه غير سديد، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت، وَالْجَوَاب السديد: أَن أَجْسَادهم لم تبل.

6 - (بابُ فَضْلِ منْ ماتَ لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب، أَي: صَبر رَاضِيا بِقَضَاء الله تَعَالَى راجيا لِرَحْمَتِهِ وغفرانه، والاحتساب من الْحسب، كالاعتداد من الْعدَد، وَإِنَّمَا قيل لمن يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجه الله: احتسبه، لِأَن لَهُ حِينَئِذٍ أَن يعْتد بِعَمَلِهِ، فَجعل فِي حَال مُبَاشرَة الْفِعْل كَأَنَّهُ مُعْتَد بِهِ، والاحتساب فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَعند المكروهات هُوَ البدار إِلَى طلب الْأجر وتحصيله بِالتَّسْلِيمِ وَالصَّبْر أَو بِاسْتِعْمَال أَنْوَاع الْبر وَالْقِيَام بهَا على الْوَجْه المرسوم فِيهَا طلبا للثَّواب المرجو مِنْهَا، وَإِنَّمَا ذكر لفظ الْوَلَد ليتناول

الصفحة 26