كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

نَافِع عَن عبد الله بن عمر وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِيهِ أقوالا. الأول أَن الْعليا يَد الْمُعْطِي للصدقة. وَالثَّانِي هِيَ يَد الْآخِذ. وَالثَّالِث هِيَ الْيَد المتعففة. وَالرَّابِع أَن الْعليا يَد الله ويليها يَد الْمُعْطِي وَيَد السَّائِل هِيَ السُّفْلى وَقَالَ عِيَاض قيل الْعليا الآخذة. والسفلى الْمَانِعَة وَقيل الْيَد هُنَا النِّعْمَة فَكَانَ الْمَعْنى أَن الْعَطِيَّة الجزيلة خير من الْعَطِيَّة القليلة وَهَذَا حث على المكارم بأوجز لفظ وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عَطِيَّة السَّعْدِيّ وَفِيه " إِن الْيَد المعطية هِيَ الْعليا وَإِن السائلة هِيَ السُّفْلى " وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار بِلَفْظ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " الْيَد المعطية خير من الْيَد السُّفْلى " وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عدي الجذامي وَفِي حَدِيثه " يَا أَيهَا النَّاس تعلمُوا فَإِنَّمَا الْأَيْدِي ثَلَاثَة فيد الله الْعليا وَيَد الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَد الْمُعْطى السُّفْلى فتعففوا وَلَو بحزم الْحَطب أَلا هَل بلغت ". وروى أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي رمثة بِلَفْظ يدل الْمُعْطِي الْعليا وروى عَليّ بن عَاصِم عَن إِبْرَاهِيم الهجري عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَيْدِي ثَلَاثَة يَد الله الْعليا وَيَد الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَد السَّائِل أَسْفَل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الْبَيْهَقِيّ تَابع عليا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن الهجري على رَفعه وَرَوَاهُ جَعْفَر بن عون عَن الهجري فَوَقفهُ وَقَالَ الْحَاكِم حَدِيث مَحْفُوظ مَشْهُور وخرجه وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الصَّوَاب أَن الْعليا هِيَ المعطية كَمَا تشهد بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَقَالَ الْخطابِيّ وَقد يتَوَهَّم كثير من النَّاس أَن معنى الْعليا هُوَ أَن يَد الْمُعْطِي المستعلية فَوق يَد الْآخِذ يجعلونه من علو الشَّيْء إِلَى فَوق قَالَ وَلَيْسَ ذَلِك عِنْدِي بِالْوَجْهِ وَإِنَّمَا هُوَ من عَلَاء الْمجد وَالْكَرم يرِيه بِهِ الترفع عَن المساءلة وَالتَّعَفُّف عَنْهَا وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ لَا يمْتَنع أَن يحمل على مَا أنكرهُ الْخطابِيّ لِأَنَّهُ إِذا حملت الْعليا على المتعففة لم يكن للمنفق ذكر وَقد صحت لَفْظَة المنفقة فَكَانَ المُرَاد أَن هَذِه الْيَد الَّتِي علت وَقت الْعَطاء على يَد السَّائِل هِيَ الْعَالِيَة فِي بَاب الْفضل قَوْله " وابدأ بِمن تعول " قد مر تَفْسِيره عَن قريب وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق طَارق الْمحَاربي وَلَفظه " قدمنَا الْمَدِينَة فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَائِم على الْمِنْبَر يخْطب النَّاس وَهُوَ يَقُول يَد الْمُعْطِي الْعليا وابدأ بِمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثمَّ أدناك أدناك " وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تصدقوا فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله عِنْدِي دينا فَقَالَ تصدق بِهِ على نَفسك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على زَوجتك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على ولدك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على خادمك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ أَنْت أبْصر " وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه هَكَذَا وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَصَححهُ بِتَقْدِيم الْوَلَد على الزَّوْجَة قَالَ الْخطابِيّ إِذا تَأَمَّلت هَذَا التَّرْتِيب علمت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم الأولى فَالْأولى وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَهُوَ يَأْمُرهُ أَن يبْدَأ بِنَفسِهِ ثمَّ بولده لِأَن الْوَلَد كبعضه فَإِذا ضيعه هلك وَلم يجد من يَنُوب عَنهُ فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ ثمَّ ثلث بِالزَّوْجَةِ وأخرجها عَن دَرَجَة الْوَلَد لِأَنَّهُ إِذا لم يجد مَا ينْفق عَلَيْهَا فرق بَينهمَا وَكَانَ لَهَا مَا يمونها من زوج أَو ذِي محرم تجب نَفَقَتهَا عَلَيْهِ ثمَّ ذكر الْخَادِم لِأَنَّهُ يُبَاع عَلَيْهِ إِذا عجز عَن نَفَقَته انْتهى كَلَام الْخطابِيّ وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين وَقد اقْتضى اخْتِيَاره تَقْدِيم الْوَلَد وَهُوَ احْتِمَال للْإِمَام وَوجه فِي الْوَلَد الطِّفْل وَالَّذِي أطبق عَلَيْهِ الْأَصْحَاب كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة تَقْدِيم الزَّوْجَة لِأَن نَفَقَتهَا آكِد لِأَنَّهَا لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلَا بالإعسار وَلِأَنَّهَا وَجَبت عوضا وَاعْترض الإِمَام بِأَن نَفَقَتهَا إِذا كَانَت كَذَلِك كَانَت كالديون وَنَفَقَة الْقَرِيب فِي مَال الْمُفلس مُقَدّمَة على الدُّيُون وَخرج لذَلِك احْتِمَالا فِي تَقْدِيم الْقَرِيب وأيده بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ تَقْدِيم الْوَلَد وَإِذ قد اخْتلفت الرِّوَايَتَانِ وَكِلَاهُمَا من رِوَايَة ابْن عجلَان عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة فيصار إِلَى التَّرْجِيح وَقد اخْتلف على حَمَّاد بن زيد فَقدم السُّفْيانَانِ وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل وروح بن الْقَاسِم عَن حَمَّاد ذكر الْوَلَد على الزَّوْجَة وَهِي رِوَايَة الشَّافِعِي فِي الْمسند وَأبي دَاوُد وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك وَصَححهُ وَقدم اللَّيْث وَيحيى الْقطَّان عَن حَمَّاد الزَّوْجَة على الْوَلَد وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَعند ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ ذكر الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيح رِوَايَة تَقْدِيم الْوَلَد على الزَّوْجَة كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وخرجه الإِمَام احْتِمَالا (قلت) كَيفَ طَابَ للنووي تَقْدِيم الزَّوْجَة على الْوَلَد وَالْولد بضعَة من الْأَب وَالزَّوْجَة أَجْنَبِيَّة ثمَّ يُعلل مَا قَالَه بقوله لِأَن نَفَقَتهَا آكِد لِأَنَّهَا لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلَا بالإعسار وَهَذَا أَيْضا عَجِيب مِنْهُ لِأَن نَفَقَتهَا صلَة فِي نفس الْأَمر وَهِي على شرف السُّقُوط وَنَفَقَة الْوَلَد حتم لَا تسْقط بِشَيْء قَوْله " وَمن يستعفف " من الاستعفاف

الصفحة 295