كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

الْخبث) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة أَي: لم يبلغُوا فعل الْمعاصِي. قَالَ: وَهَذَا لَا يعرف، إِنَّمَا هُوَ الْحِنْث وَهُوَ الْمَحْفُوظ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) : بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي: بلغ مبلغا تجْرِي عَلَيْهِ الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة. وَفِي (الْمُحكم) : الْحِنْث الْحلم، وَقَالَ الْخَلِيل: بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي: جرى عَلَيْهِ الْقَلَم، والحنث الذَّنب، قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم} (الْوَاقِعَة: 64) . وَقيل: المُرَاد بلغ إِلَى زمَان يُؤَاخذ بِيَمِينِهِ إِذا حنث، وَقَالَ الرَّاغِب: عبر بِالْحِنْثِ عَن الْبلُوغ لما كَانَ الْإِنْسَان يُؤَاخذ بِمَا يرتكبه فِيهِ، بِخِلَاف مَا قبله قَوْله: (إلاَّ أدخلهُ الْجنَّة) ، هَذَا الِاسْتِثْنَاء وَمَا بعده خبر قَوْله: (وَمَا من مُسلم) . قَوْله: (بِفضل رَحمته) أَي: بِفضل رَحْمَة الله للأولاد، وَقيل: إِن الضَّمِير فِي: رَحمته، يرجع إِلَى الْأَب لكَونه كَانَ يرحمهم فِي الدُّنْيَا فيجازى بِالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَة، ورد ذَلِك بِأَن الضَّمِير يرجع إِلَى الله تَعَالَى، بِدَلِيل مَا روى فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، بِفضل رَحْمَة الله إيَّاهُم. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، من حَدِيث أبي ذَر: (إلاَّ غفر الله لَهما بِفضل رَحمته) وَكَذَا فِي حَدِيث الْحَارِث بن وقيش، وَقد مر عَن قريب، وَكَذَا فِي حَدِيث عَمْرو بن عبسة وَقد مر أَيْضا، فَكَأَن هَذَا الْقَائِل لم يطلع على الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَتصرف فِيمَا قَالَه. قَوْله: (إيَّاهُم) ، الضَّمِير يرجع إِلَى قَوْله: (ثَلَاثَة من الْوَلَد) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ الْمُسلم الَّذِي توفيت أَوْلَاده، لَا الْأَوْلَاد، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار أَنه نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم. قلت: الظَّاهِر غير ظَاهر لِأَن فِي غير طَرِيق هَذَا الحَدِيث مَا يدل على أَن الضَّمِير للأولاد، وَذَلِكَ فِي حَدِيث عَمْرو بن أبي عبسة وَأبي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ، وَقد مر ذكرهمَا، وَقد تكلّف الْكرْمَانِي فِيمَا قَالَه لعدم إطلاعه على هَذِه الْأَحَادِيث، وَقد علم أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت فِي قَضِيَّة وَاحِدَة، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: خص الصَّغِير لِأَن الشَّفَقَة عَلَيْهِم أعظم وَالْحب لَهُ أَشد وَالرَّحْمَة لَهُ أوفر، وعَلى هَذَا فَمن بلغ الْحِنْث لَا يحصل لمن فَقده مَا ذكر من هَذَا الثَّوَاب، وَإِن كَانَ فِي فقد الْوَلَد مُطلقًا أجر فِي الْجُمْلَة وعَلى هَذَا كثير من الْعلمَاء، لِأَن الْبَالِغ يتَصَوَّر مِنْهُ العقوق الْمُقْتَضِي لعدم الرَّحْمَة، بِخِلَاف الصَّغِير فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ غير مُخَاطب. وَقيل: بل يدْخل الْكَبِير فِي ذَلِك من طرق الفحوى لِأَنَّهُ إِذا ثَبت ذَلِك فِي الطِّفْل الَّذِي هُوَ كلٌّ على أَبَوَيْهِ، فَكيف لَا يثبت فِي الْكَبِير الَّذِي بلغ مَعَه السَّعْي وَوصل لَهُ مِنْهُ النَّفْع، وَتوجه إِلَيْهِ الْخطاب بالحقوق؟ قَالَ هَذَا الْقَائِل: دَلِيل هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِلْغَاء البُخَارِيّ التَّقْيِيد بذلك فِي التَّرْجَمَة. قيل: يَقُول الأول: قَوْله: (بِفضل رَحمته إيَّاهُم) لِأَن الرَّحْمَة للصغار أَكثر لعدم حُصُول الْإِثْم مِنْهُم؟ قلت: رَحْمَة الله وَاسِعَة تَشْمَل الصَّغِير وَالْكَبِير فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّقْيِيد. فَإِن قلت: هَل يلْتَحق بالصغار من بلغ مَجْنُونا مثلا وَاسْتمرّ على ذَلِك فَمَاتَ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه يلْحق لعدم الْخطاب. فَإِن قلت: فِي النَّاس من يكره وَلَده ويتبرأ مِنْهُ، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ ضيق الْحَال؟ قلت: لما كَانَ الْوَلَد مَظَنَّة الْمحبَّة نيط بهَا الحكم، وَإِن كَانَ يُوجد التَّخَلُّف فِي بعض الْأَفْرَاد. فَإِن قلت: هَل يدْخل أَوْلَاد الْأَوْلَاد فِي هَذَا الحكم؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق حَفْص بن عبيد الله عَن أنس عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من احتسب ثَلَاثَة من صلبه دخل الْجنَّة. .) الحَدِيث يدل على أَن أَوْلَاد الْأَوْلَاد لَا يدْخلُونَ، وَكَذَلِكَ حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ، (رجل سلف بَين يَدَيْهِ ثَلَاثَة من صلبه فِي الأسلام) ، وَقد مر عَن قريب، وَلَكِن الظَّاهِر أَن أَوْلَاد الْأَوْلَاد الذُّكُور مِنْهُم يدْخلُونَ، وَأَوْلَاد الْبَنَات لَا يدْخلُونَ، وَفِيه: التَّقْيِيد بِالْإِسْلَامِ ليدل على اخْتِصَاص ذَلِك الثَّوَاب بِالْمُسلمِ فَإِن قلت: من مَاتَ لَهُ أَوْلَاد فِي الْكفْر ثمَّ أسلم هَل يدْخل فِيهِ؟ قلت: حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ وَحَدِيث عَمْرو ابْن عبسة اللَّذين قد ذكرا عَن قريب يدلان على عدم ذَلِك. وَفِيه: دَلِيل على أَن أَطْفَال الْمُسلمين فِي الْجنَّة. قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ إِجْمَاع، وَلَا عِبْرَة للمجبرة حَيْثُ جعلوهم تَحت الْمَشِيئَة، فَلَا يعْتد بخلافهم وَلَا بوفاقهم. وَفِي أَطْفَال الْمُشْركين اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء، فَذهب جمَاعَة إِلَى التَّوَقُّف فِي أَطْفَال الْمُشْركين أَن يَكُونُوا فِي جنَّة أَو نَار، مِنْهُم ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد وَإِسْحَاق لحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَطْفَال؟ فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) . كَذَا قَالَ: الْأَطْفَال، وَلم يخص طفْلا من طِفْل. قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) : رُوِيَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لعَائِشَة فِي أَطْفَال الْمُشْركين: (إِن شِئْت دَعَوْت الله تَعَالَى أَن يسمعك تضاغيهم فِي النَّار؟) وَقَالَ سَمُرَة بن جُنْدُب: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَوْلَاد الْمُشْركين هم خدم أهل الْجنَّة) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه سُئِلَ عَنْهُم فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، فَرجع الْأَمر إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، فَمن سبق علم

الصفحة 30