كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
وَقع فِي بعض الْأُصُول: الْمُتَصَدّق، بِالتَّاءِ وَفِي بَعْضهَا بِحَذْف التَّاء وَتَشْديد الصَّاد، هما صَحِيحَانِ، قَالَه النَّوَوِيّ قلت: وَجه هَذَا أَن التَّاء لَا تحذف بل تقلب صادا، ثمَّ تُدْغَم الصَّاد فِي الصَّاد، وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيه الْقَاعِدَة. قَوْله: (كَمثل رجلَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة عَمْرو: رجل، بِالْإِفْرَادِ وَكَأَنَّهُ تَغْيِير من بعض الروَاة، وَصَوَابه: رجلَيْنِ. قَوْله: (جبتان) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (كَمثل رجل عَلَيْهِ جبتان أَو جنتان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما جبتان أَو جنتان فَالْأول بِالْبَاء وَالثَّانِي بالنُّون، وَوَقع فِي بعض الْأُصُول عَكسه، وَقَالَ ابْن قرقول: وَالنُّون أصوب بِلَا شكّ، وَهِي الدرْع، يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الحَدِيث نَفسه: (لزقت كل حَلقَة) ، وَفِي لفظ: (فَأخذت كل حَلقَة موضعهَا) . وَكَذَا قَوْله: (من حَدِيد) . قلت: وَرَوَاهُ حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي عَن طَاوُوس، بالنُّون، كَمَا يَجِيء عَن قريب، ورجحت هَذِه الرِّوَايَة بِمَا قَالَه ابْن قرقول، وَالْجنَّة هِيَ الْحصن فِي الأَصْل، وَسميت بهَا الدرْع لِأَنَّهَا تجن صَاحبهَا أَي: تحصنه، والجبة بِالْبَاء الْمُوَحدَة هِيَ الثَّوْب الْمعِين، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا مَانع من اطلاقه على الدرْع. قلت: الْمَانِع مَوْجُود، لِأَن الْجُبَّة بِالْبَاء لَا تحصن مثل الْجنَّة بالنُّون، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : جنتان، بالنُّون. فِي هَذَا الْموضع بِلَا شكّ، وَلَا اخْتِلَاف. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هُوَ الْأَنْسَب، لِأَن الدرْع لَا يُسمى جُبَّة بِالْبَاء بل بالنُّون.
وحدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا فأمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إلاَّ سَبَغَتْ أوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تَخْفِي بَنَانَهُ وَتَعْفُو أثَرَهُ وَأمَّا البَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أنْ يُنْفِقَ شَيْئا إلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهْوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ.
هَذَا طَرِيق آخر أتم من الأول، رَوَاهُ عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون، عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْبَخِيل والمنفق) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مثل الْمُنفق والمتصدق كَمثل رجل عَلَيْهِ جنتان أَو جبتان) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقع فِي هَذَا الحَدِيث أَوْهَام كَثِيرَة من الروَاة تَصْحِيف وتحريف وَتَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمِنْهُ: مثل الْمُنفق والمتصدق، وَمِنْه: كَمثل رجل، وَصَوَابه رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان، وَمِنْه قَوْله: (جبتان أَو جنتان) ، بالنُّون بِالشَّكِّ وَالصَّوَاب: جنتان، بالنُّون بِلَا شكّ. قَوْله: (من ثديهما) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الدَّال، كَذَا فِي رِوَايَة أبي الْحسن جمع ثدي، نَحْو الْفُلُوس والفلس، فعلى هَذَا أَصله: ثدوي، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: ثدي، بِضَم الدَّال ثمَّ أبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَيصِح نصب الثَّاء، وَفِي رِوَايَة: ثدييهما، بالتثنية وَفِي (الْمُجْمل) : الثدي، بِالْفَتْح للْمَرْأَة وَالْجمع الثدي، يذكر وَيُؤَنث. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَالْجمع أثد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الثدي للرجل وَالْمَرْأَة، وَالْجمع أثد وثدي، على فعول، وثدي بِكَسْر الثَّاء. قَوْله: (إِلَى تراقيهما) جمع ترقوة، وَيُقَال: الترائق أَيْضا على الْقلب، وَقَالَ ثَابت فِي (خلق الْإِنْسَان) : الترقوتان هما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر من رَأس الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى طرف ثغرة النَّحْر، وَهِي اللهزمة الَّتِي بَينهمَا. وَفِي (الْمُخَصّص) : هِيَ من رقى يرقى. فَإِن قلت: لِمَ لَا تقلب الْوَاو ألفا؟ قلت: لِئَلَّا يخْتل الْبناء كَمَا فِي سرو، وَفِي (الصِّحَاح) لَا تقل: ترقوة بِالضَّمِّ. قَوْله: (إلاَّ سبغت) أَي: امتدت وغطت، وَقيل: كملت وتمت، وَضَبطه الْأصيلِيّ بِضَم التَّاء وَهُوَ شَيْء لَا يعرف. قَوْله: (أَو وقرت) ، شكّ من الرَّاوِي، من الوفور بِمَعْنى: كملت. وَفِي (التَّلْوِيح) : سبغت أَو مرت على جلد، كَذَا فِي النّسخ: مرت، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقيل صَوَابه، يَعْنِي فِي مُسلم مدت بِالدَّال، بِمَعْنى: سبغت كَمَا فِي الحَدِيث الآخر: (انبسطت) . وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: مادت، بدال مُخَفّفَة من ماد إِذا مَال، وَرَوَاهُ بَعضهم: مارت، وَمَعْنَاهُ: سَالَتْ عَلَيْهِ وامتدت. قَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ تردّدت وَذَهَبت وَجَاءَت بكمالها. قَوْله: (حَتَّى تجن) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَتَشْديد النُّون، هَذَا فِي رِوَايَة الْحميدِي وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تستر، من أجن إِذا ستر، وَكَذَلِكَ جن بِمَعْنَاهُ: ويروى حق يخفى
الصفحة 308
318