كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
{ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار} (ك: 44) . فِي أَن مَا سَيكون بمنزله الْكَائِن، لِأَن مَا أخبر بِهِ الصَّادِق من الْمُسْتَقْبل كالواقع، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا قد تَلقاهُ جمَاعَة عَن الطَّيِّبِيّ وأقروه عَلَيْهِ، وَفِيه نظر، لِأَن السَّبَبِيَّة حَاصِلَة بِالنّظرِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء، لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعد النَّفْي إِثْبَات، فَكَانَ الْمَعْنى: أَن تَخْفيف الولوج مسبب عَن موت الْأَوْلَاد، وَهُوَ ظَاهر، لِأَن الولوج عَام وتخفيفه يَقع بِأُمُور مِنْهَا موت الْأَوْلَاد بِشَرْطِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ أَن الْفَاء بِمَعْنى الْوَاو الَّتِي للْجمع فِيهِ نظر. قلت: فِي كل وَاحِد من نظريه نظر، أما الأول: فلأنا لَا نسلم حُصُول السَّبَبِيَّة بِالنّظرِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء، لِأَن الولوج هَهُنَا لَيْسَ على حَقِيقَته بالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْوُرُود، وَقد مر أَن فِي مَعْنَاهُ أقوالاً. وَقَوله: لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعد النَّفْي إِثْبَات مَحل نزاع، وَقد علم فِي مَوْضِعه. وَإِمَّا الثَّانِي: فأيضا مَمْنُوع، لِأَن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَلم يمْنَع أحد عَن ذَلِك أَلا ترى أَن بَعضهم قَالُوا: إِن الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى: الْوَاو، أَي: لَا تمسه النَّار قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَلَا تَحِلَّة الْقسم، وَقد جوز الْفراء والأخفش وَأَبُو عُبَيْدَة مَجِيء: إلاَّ بِمَعْنى: الْوَاو، وَجعلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} (الْبَقَرَة: 051) . أَي: وَلَا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم.
7 - (بابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأةِ عِنْدَ القَبْرِ اصبِرِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قَول الرجل للْمَرْأَة عِنْد قبر الْمَيِّت: إصبري، وَالْقَصْد من هَذِه التَّرْجَمَة جَوَاز مُخَاطبَة الرِّجَال للنِّسَاء بِمَا فِيهِ موعظة وَأمر بِمَعْرُوف وَنهي عَن مُنكر، وَإِنَّمَا ذكر بقوله: (قَول الرجل) إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك لَا يخْتَص بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ فِي الحَدِيث قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأطلق إمرأة ليتناول الشَّابَّة والعجوز، وَعين لفظ: اصْبِرِي، وَلم يقل لفظ: اتقِي، كَمَا فِي الحَدِيث لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسب فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت: لِمَ قَالَ: قَول الرجل، وَلم يقل: وعظ الرجل، وَنَحْوه؟ قلت: لعُمُوم معنى القَوْل وشموله.
2521 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بامْرَأةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وهْيَ تَبْكِي فَقَالَ اتَّقِي الله واصْبِرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واصبري) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي الْأَحْكَام أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار وَعَن غنْدر عَن أبي مُوسَى وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن عقبَة بن مكرم وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَزُهَيْر بن حَرْب عَن عبد الصَّمد، ستتهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى نَحوه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن عَليّ عَن غنْدر.
قَوْله: (وَهِي تبْكي) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا: (اتقِي الله واصبري) أَي: لَا تجزعي، فَإِن الْجزع يحبط الْأجر، واصبري فَإِن الصَّبْر يجزل الْأجر، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) . وَقَالَ ابْن ابْن بطال: أَرَادَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن لَا يجْتَمع عَلَيْهَا مصيبتان: مُصِيبَة فقد الْوَلَد، ومصيبة فقد الْأجر الَّذِي يُبطلهُ الْجزع، فَأمرهَا بِالصبرِ الَّذِي لَا بُد للجازع من الرُّجُوع إِلَيْهِ بعد سُقُوط أجره، وَقيل: كل مُصِيبَة لم يذهب فَرح ثَوَابهَا ألم حزنها فَهِيَ الْمُصِيبَة الدائمة، والحزن الْبَاقِي. وَقَالَ الْحسن: الْحَمد لله الَّذِي أجرنا على مَا لَا بُد لنا مِنْهُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. وَفِيه: دلَالَة على تواضعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَونه لم ينهرها، وَفِيه: النَّهْي عَن الْبكاء بعد الْمَوْت. وَفِيه: الموعظة للباكي بتقوى الله وَالصَّبْر.
8 - (بابُ غُسْلِ المَيِّتِ وَوَضُوئِهِ بِالمَاءِ والسِّدْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَيِّت. . إِلَى آخِره.
وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على أُمُور.
الأول: فِي غسل الْمَيِّت، هَل هُوَ فرض أَو وَاجِب أَو سنة؟ فَقَالَ أَصْحَابنَا: هُوَ وَاجِب على الْأَحْيَاء بِالسنةِ وَإِجْمَاع الْأمة. أما السّنة: فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (للْمُسلمِ على الْمُسلم سِتّ حُقُوق. .) وَذكر مِنْهَا: إِذا مَاتَ أَن يغسلهُ، وأجمعت الْأمة على هَذَا. وَفِي (شرح الْوَجِيز) : الْغسْل والتكفين وَالصَّلَاة فرض
الصفحة 35
318