كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

فيمنعه) ، أَي: يُعْطي، كل من طلب مَا يَطْلُبهُ. قَوْله: (مَا سَأَلته لألبسها) أَي: مَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أَن ألبسها، وَأَن الْمقدرَة مَصْدَرِيَّة. وَفِي رِوَايَة أبي غَسَّان: (فَقَالَ: رَجَوْت بركتها حِين لبسهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة للطبراني عَن زَمعَة بن صَالح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يصنع لَهُ غَيرهَا، فَمَاتَ قبل أَن تفرغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حسن خلق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسعة جوده وقبوله الْهَدِيَّة. قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: جَوَاز ترك مُكَافَأَة الْفَقِير على هديته. وَفِيه نظر، لِأَن الْمُكَافَأَة كَانَت عَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستمرة، فَلَا يلْزم من السُّكُوت عَنْهَا هُنَا أَن لَا يكون فعلهَا، على أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث الْجَزْم يكون ذَلِك هَدِيَّة لاحْتِمَال عرضهَا إِيَّاهَا عَلَيْهِ لأجل الشِّرَاء، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا كَانَت هَدِيَّة فَلَا يلْزم أَن تكون الْمُكَافَأَة على الْفَوْر. قَالَ: وَفِيه: جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْقَرَائِن، وَلَو تجردت لقَولهم: (فَأَخذهَا مُحْتَاجا إِلَيْهَا) وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال سبق القَوْل مِنْهُ بذلك كَمَا ذَكرْنَاهُ قَالَ وَفِيه التَّرْغِيب فِي الْمَصْنُوع بِالنِّسْبَةِ إِلَى صانعة إِذا كَانَ ماهراً وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال إرادتها بنسبتها إِلَيْهِ إِزَالَة مَا يخْشَى من التَّدْلِيس. وَفِيه: جَوَاز اسْتِحْسَان الْإِنْسَان مَا يرَاهُ على غَيره من الملابس، إِمَّا ليعرفه قدرهَا، وَإِمَّا ليعرض لَهُ بِطَلَبِهِ مِنْهُ حَيْثُ يسوغ لَهُ ذَلِك. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الْإِنْكَار عِنْد مُخَالفَة الْأَدَب ظَاهرا، وَإِن لم يبلغ الْمُنكر دَرَجَة التَّحْرِيم. وَفِيه: التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. وَفِيه: جَوَاز إعداد الشَّيْء قبل وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا قد ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز الْمَسْأَلَة بِالْمَعْرُوفِ. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يرد سَائِلًا. وَفِيه: بركَة مَا لبسه مِمَّا يَلِي جسده. وَفِيه: قبُول السُّلْطَان الْهَدِيَّة من الْفَقِير. وَفِيه: جَوَاز السُّؤَال من السُّلْطَان. وَفِيه: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُعْطي حَتَّى لَا يجد شَيْئا فَيدْخل بذلك فِي جملَة المؤثرين على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة.

92 - (بابُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَلم يبين كَيْفيَّة الحكم: هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز أَو مَكْرُوه؟ لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، لِأَن قَول أم عَطِيَّة يحْتَمل أَن يكون نهي تَحْرِيم، وَيحْتَمل أَن يكون نهي تَنْزِيه، على أَن ظَاهر قَول أم عَطِيَّة: وَلم يعزم علينا، يَقْتَضِي أَن يكون النَّهْي نهي تَنْزِيه، وَقد ورد فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث تدل على الْجَوَاز، فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف أطلق البُخَارِيّ التَّرْجَمَة وَلم يقيدها بِحكم. وَفِي بعض النّسخ: بَاب اتِّبَاع النِّسَاء الْجِنَازَة.

8721 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ خالِدٍ عنْ أُمِّ الهُذَيْلِ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نُهِينَا عنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَين مَا أبهمه البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة فِي إِطْلَاق الحكم بِأَنَّهُ مَنْهِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأم الْهُذيْل هِيَ: حَفْصَة بنت سِيرِين، وَأم عَطِيَّة هِيَ نسيبة. وَقد تقدم كل الروَاة. وَتقدم الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، فِي كتاب الْحيض، من طَرِيق أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة مطولا، وَفِيه: (وَكُنَّا ننهى عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز) . وَرَوَاهُ هِشَام بن حسان أَيْضا عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة يزِيد ابْن أبي حَكِيم عَن الثَّوْريّ بِإِسْنَاد هَذَا الْبَاب، وَلَفظه: (نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يسم الناهي فِيهِ؟ قلت: الَّذِي أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ يرد مَا قيل فِيهِ من ذَلِك، وَهَذَا الْبَاب مُخْتَلف فِيهِ، فالجمهور على أَن كل مَا ورد بِهَذِهِ الصِّيغَة حكمه حكم الْمَرْفُوع، وروى الطَّبَرَانِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة عَن جدته أم عَطِيَّة، قَالَت: (لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة جمع النِّسَاء فِي بَيت ثمَّ بعث إِلَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَيْكُنَّ، بَعَثَنِي لأبايعكن على أَن لَا تسرقن. .) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (وأمرنا أَن نخرج فِي الْعِيد الْعَوَاتِق، ونهانا أَن نخرج فِي جَنَازَة) . وَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبَاب مُرْسل. قَوْله: (وَلم يعزم علينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لم يُوجب وَلم يفْرض أَو لم يشدد وَلم يُؤَكد علينا فِي الْمَنْع، كَمَا أكد علينا فِي غَيره من المنهيات، فَكَانَ الْمَعْنى: أَنَّهَا قَالَت: كره لنا اتِّبَاع الْجَنَائِز من غير تَحْرِيم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي أَن النَّهْي للتنزيه، وَبِه قَالَ جُمْهُور أهل الْعلم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر

الصفحة 63