كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
الزِّيَارَة لِأَن زوارات للْمُبَالَغَة، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن النِّسَاء إِنَّمَا يمنعن من إكثار الزِّيَارَة لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْإِكْثَار من تَضْييع حُقُوق الزَّوْج والتبرج والشهرة والتشبه بِمن يلازم الْقُبُور لتعظيمها، وَلما يخَاف عَلَيْهَا من الصُّرَاخ وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد، وعَلى هَذَا يفرق بَين الزائرات والزوارات.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحَدِيث بُرَيْدَة صَرِيح فِي نسخ نهي زِيَارَة الْقُبُور، وَالظَّاهِر أَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ لم يبلغهما أَحَادِيث الْإِبَاحَة.
وَكَانَ الشَّارِع يَأْتِي قُبُور الشُّهَدَاء عِنْد رَأس الْحول فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنعم عُقبى الدَّار، وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يَفْعَلُونَ ذَلِك، وزار الشَّارِع قبر أمه، يَوْم الْفَتْح فِي ألف مقنع ذكره ابْن أبي الدُّنْيَا، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إجَازَة الزِّيَارَة، وَكَانَت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كل جُمُعَة. وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يزور قبر أَبِيه فيقف عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن وقبره بِمَكَّة، ذكره أجمع عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا بَأْس بزيارة الْقُبُور وَالْجُلُوس إِلَيْهَا وَالسَّلَام عَلَيْهَا عِنْد الْمُرُور بهَا، وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسُئِلَ مَالك عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ فَقَالَ: قد كَانَ نهى عَنهُ ثمَّ أذن فِيهِ، فَلَو فعل ذَلِك إِنْسَان وَلم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بَأْسا. وَفِي (التَّوْضِيح) أَيْضا: وَالْأمة مجمعة على زِيَارَة قبر نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَكَانَ ابْن عمر إِذا قدم من سفر أُتِي قَبره المكرم فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه. وَمعنى النَّهْي عَن زِيَارَة الْقُبُور إِنَّمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام عِنْد قربهم بِعبَادة الْأَوْثَان واتخاذ الْقُبُور مَسَاجِد، فَلَمَّا استحكم الْإِسْلَام وَقَوي فِي قُلُوب النَّاس وَأمنت عبَادَة الْقُبُور وَالصَّلَاة إِلَيْهَا نسخ النَّهْي عَن زيارتها لِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة وتزهد فِي الدُّنْيَا وَعَن طَاوُوس: كَانُوا يستحبون أَن لَا يتفرقوا عَن الْمَيِّت سَبْعَة أَيَّام لأَنهم يفتنون ويحاسبون فِي قُبُورهم سَبْعَة أَيَّام، وَحَاصِل الْكَلَام من هَذَا كُله أَن زِيَارَة الْقُبُور مَكْرُوهَة للنِّسَاء، بل حرَام فِي هَذَا الزَّمَان، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر لِأَن خروجهن على وَجه فِيهِ الْفساد والفتنة، وَإِنَّمَا رخصت الزِّيَارَة لتذكر أَمر الْآخِرَة وللاعتبار بِمن مضى وللتزهد فِي الدُّنْيَا.
23 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ إذَا كانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ لِقَوْلِ الله تعَالَى: {قُوا أنُفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَارا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . إِلَى آخِره، هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا لفظ حَدِيث نذكرهُ عَن قريب مُسْندًا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَقْيِيد من المُصَنّف لمُطلق الحَدِيث، وَحمل مِنْهُ لرِوَايَة ابْن عَبَّاس الْمقيدَة بالبعضية على رِوَايَة ابْن عمر الْمُطلقَة. قلت: لَا نسلم أَن التَّقْيِيد من المُصَنّف، بل هما حديثان أَحدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد، فترجم بِلَفْظ الحَدِيث الْمُقَيد تَنْبِيها على أَن الحَدِيث الْمُطلق مَحْمُول عَلَيْهِ، لِأَن الدَّلَائِل دلّت على تَخْصِيص الْعَذَاب بِبَعْض الْبكاء لَا بكله، لِأَن الْبكاء بِغَيْر نوح مُبَاح، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: (إِذا كَانَ النوج) إِلَى آخِره، لَيْسَ من الحَدِيث الْمَرْفُوع، بل هُوَ من كَلَام البُخَارِيّ، قَالَه استنباطا. قَوْله: (من سنته) ، بِضَم السِّين وَتَشْديد النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، أَي: من عَادَته وطريقته، وَهَكَذَا هُوَ للأكثرين. وَقَالَ ابْن قرقول: أَي: مِمَّا سنه واعتاده، إِذْ كَانَ من الْعَرَب من يَأْمر بذلك أَهله، وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَه البُخَارِيّ، وَهُوَ أحد التأويلات فِي الحَدِيث. وَضَبطه بَعضهم: بِالْبَاء، الْمُوَحدَة المكررة أَي: من أَجله، وَذكر عَن مُحَمَّد بن نَاصِر أَن الأول تَصْحِيف وَالصَّوَاب الثَّانِي، وَأي سنة للْمَيت؟ وَفِي بعض النّسخ: بَاب إِذا كَانَ النوح من سنَنه، وَضَبطه بالنُّون. قَوْله: (لقَوْل الله تَعَالَى) إِلَى آخِره، وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أَن الشَّخْص إِذا كَانَ نائحا وَأَهله يقتدون بِهِ فَهُوَ صَار سَببا لنوح أَهله، فَمَا وقى أَهله من النَّار فَخَالف الْأَمر، ويعذب بذلك قَوْله: (قوا) ، أَمر للْجَمَاعَة من: وقى يقي، وَأَصله أوقيوا، لِأَن الْأَمر من يقي: ق، وَأَصله أوقَ، فحذفت الْوَاو تبعا ليقي، وَأَصله: يوقي حذفت الْوَاو، ولوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، فَصَارَ: يقي على وزن: يعي، وَالْأَمر مِنْهُ: ق، وعَلى الأَصْل: أوق، فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا للمضارع اسْتغنى عَن الْهمزَة، فحذفت فَصَارَ: قِ، على وزن: ع. تَقول: ق، قيا قوا. وَمعنى: قوا إحفظوا لِأَنَّهُ من الْوِقَايَة، وَهُوَ الْحِفْظ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
الصفحة 70
318