كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
الْأَحَادِيث، وَيدل على عدم إِرَادَة الْعُمُوم من الْبكاء بكاء عمر بن الْخطاب وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ بكاء ابْنه عبد الله بن عمر وهما رَاوِيا الحَدِيث، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: حَضَره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر يَعْنِي: سعد بن معَاذ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنِّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وَإِنِّي لفي حُجْرَتي، وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان، قَالَ: أتيت بنعي النُّعْمَان بن مقرن فَوضع يَده على رَأسه وَجعل يبكي، وروى أَيْضا عَن ابْن علية عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابْن عمر فِي السُّوق فنعى إِلَيْهِ حجر، فَأطلق حبوته وَقَامَ وَعَلِيهِ النحيب.
الرَّابِع: نِسْبَة عَائِشَة عمر وَابْنه عبد الْملك إِلَى الْوَهم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد اخْتلف فِي محمل الْحَدِيثين، فَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون الْأَمر فِي هَذَا على مَا ذهبت إِلَيْهِ عَائِشَة، لِأَنَّهَا قد رَوَت أَن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ فِي شَأْن يَهُودِيّ، وَالْخَبَر الْمُفَسّر أولى من الْمُجْمل، ثمَّ احتجت بِالْآيَةِ. قَالَ: وَقد يحْتَمل أَن يكون مَا رَوَاهُ ابْن عمر صَحِيحا من غير أَن يكون فِيهِ خلاف لِلْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يوصون أَهْليهمْ بالبكاء وَالنوح عَلَيْهِم، وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا من مذاهبهم، وَهُوَ مَوْجُود فِي أشعارهم كَقَوْل طرفَة بن العَبْد:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا أم معبد)
وَمثل هَذَا كثير فِي أشعارهم، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالميت إِنَّمَا تلْزمهُ الْعقُوبَة فِي ذَلِك بِمَا تقدم فِي ذَلِك من أمره إيَّاهُم بذلك وَقت حَيَاته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا) . وَقد مَال إِلَى قَول عَائِشَة الشَّافِعِي فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) عَنهُ، فَقَالَ: وَمَا رَوَت عَائِشَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أشبه أَن يكون مَحْفُوظًا عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِدلَالَة الْكتاب ثمَّ السّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 07) . وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} (النَّجْم: 93) . وَقَوله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 7 و 8) . وَقَوله تَعَالَى: {لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} (طه: 51) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل: هَذَا إبنك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما إِنَّه لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ، فَأعْلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا أعلم الله من أَن جِنَايَة كل امرىء عَلَيْهِ كَمَا عمله لَا لغيره. وَأما قَول من حمل ذَلِك على الْوَصِيَّة بذلك فقد نَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الْمُزنِيّ، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور أَنهم تأولوا ذَلِك على من وصّى أَن يبكى عَلَيْهِ ويناح بعد مَوته، فنفذت وَصيته. ثمَّ حكى النَّوَوِيّ عَن طَائِفَة أَنه: مَحْمُول على من أوصى بالبكاء وَالنوح، أَو لم يوص بتركهما، قَالَ: وَحَاصِل هَذَا القَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بتركهما، وَمن أهملهما عذب بتركهما، وَحكى عَن طَائِفَة أَن معنى الْأَحَادِيث أَنهم كَانُوا ينوحون على الْمَيِّت ويندبونه بأَشْيَاء هِيَ محَاسِن فِي زعمهم، وَهِي فِي الشَّرْع قبائح، كَقَوْلِهِم: يَا مرمل النسوان، وموتم الْولدَان، ومخرب الْعمرَان، ومفرق الأخدان. ويروى ذَلِك شجاعة وفخرا. وَحكى عَن طَائِفَة أَن مَعْنَاهُ أَنه يعذب بِسَمَاع بكاء أَهله ويرق لَهُم. قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أولى الْأَقْوَال، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث فِيهِ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر امْرَأَة عَن الْبكاء على ابْنهَا، وَقَالَ: إِن أحدكُم إِذا بَكَى استعبر لَهُ صويحبه، فيا عباد الله لَا تعذبوا إخْوَانكُمْ) . وَحكى الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم: ذهب إِلَى أَنه مَخْصُوص بِبَعْض الْأَمْوَات الَّذين وَجب عَلَيْهِم الْعَذَاب بذنوب اقترفوها، وَجرى من قَضَاء الله سُبْحَانَهُ فيهم أَن يكون عَذَابه وَقت الْبكاء عَلَيْهِم، وَيكون كَقَوْلِهِم: مُطِرْنَا بنوءِ كَذَا، أَي: عِنْد نوء كَذَا. قَالَ: كَذَلِك قَوْله: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) أَي: عِنْد بكائهم عَلَيْهِ لاستحقاقه ذَلِك بِذَنبِهِ، وَيكون ذَلِك حَالا لَا سَببا، لأَنا لَو جَعَلْنَاهُ سَببا كَانَ مُخَالفا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 7) . وَحكى النَّوَوِيّ هَذَا الْمَعْنى عَن عَائِشَة، قيل: وَيدل لذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عُرْوَة، قَالَ: ذكر عِنْد عَائِشَة أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يرفع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت ليعذب فِي قَبره ببكاء أَهله، فَقَالَت: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون عَلَيْهِ الْآن) . وروى ان ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن ابْن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة بعد قَوْلهَا: وَهَلَ أَبُو عبد الرَّحْمَن إِنَّمَا قَالَ: إِن أهل الْمَيِّت ليبكون عَلَيْهِ وَإنَّهُ ليعذب بجرمه.
وَالْحَاصِل أَن الْعلمَاء ذكرُوا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) ثَمَانِيَة أَقْوَال، أَصَحهَا وَهُوَ تَأْوِيل الْجُمْهُور على أَنه مَحْمُول على من أوصى بِهِ، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز التعذيب فِي الدُّنْيَا
الصفحة 79
318