كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 8)
الْخَبَرَ الْهَائِلَ الْمُفْظِعَ الْبَاهِرَ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: النَّبَأُ الْعَظِيمُ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هُوَ الْقُرْآنُ «1» . وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يَعْنِي النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمُنْكِرِي الْقِيَامَةِ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ. ثُمَّ شرع تبارك وَتَعَالَى يُبَيِّنُ قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أَيْ مُمَهَّدَةٌ لِلْخَلَائِقِ ذَلُولًا لَهُمْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً وَالْجِبالَ أَوْتاداً أَيْ جَعَلَهَا لَهَا أَوْتَادًا أَرْسَاهَا بِهَا وَثَبَّتَهَا وَقَرَّرَهَا حَتَّى سَكَنَتْ وَلَمْ تَضْطَرِبْ بِمَنْ عَلَيْهَا.
ثم قال تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني ذكرا وأنثى يتمتع كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَيَحْصُلُ التَّنَاسُلُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 20] وقوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ قَطْعًا لِلْحَرَكَةِ لِتَحْصُلَ الرَّاحَةُ مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ وَالسَّعْيِ فِي الْمَعَايِشِ فِي عَرْضِ النَّهَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الآية في سورة الفرقان جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفُرْقَانِ: 47] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا أَيْ يَغْشَى النَّاسَ ظَلَامُهُ وَسَوَادُهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 4] وقال الشاعر: [الطويل]
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ «2»
وَقَالَ قَتَادَةُ في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي سكنا، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي جعلناه مشرقا نيرا مُضِيئًا لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِلْمَعَاشِ وَالتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تعالى: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني السموات السَّبْعَ فِي اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا وَتَزْيِينِهَا بالكواكب الثوابت والسيارات ولهذا قال تعالى: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يَعْنِي الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ الَّتِي يَتَوَهَّجُ ضَوْؤُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ كلهم.
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْمُعْصِراتِ الرِّيحُ «3» ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قَالَ: الرِّيَاحُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَزَيْدُ بن أسلم وابنه
__________
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 395.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 897، وأدب الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 582.
(3) انظر تفسير الطبري 12/ 398.
الصفحة 307
520