كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 8)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنَّهَا الرِّيَاحُ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس من الْمُعْصِرَاتِ أَيْ مِنَ السَّحَابِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّبُ بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني السموات وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ السحاب كما قال تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرُّومِ: 48] أَيْ من بينه.
وقوله جل وعلا: مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ثَجَّاجاً مُنْصَبًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا وَقَالَ ابن زيد: كثيرا، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ الثَّجُّ وَإِنَّمَا الثَّجُّ الصَّبُّ الْمُتَتَابِعُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» «2» يَعْنِي صَبَّ دِمَاءِ الْبُدْنِ هَكَذَا قَالَ، قُلْتُ وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَحَاضَةِ حِينَ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ» يَعْنِي أن تحتشي بالقطن فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا «3» ، وَهَذَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الثَّجِّ فِي الصَّبِّ الْمُتَتَابِعِ الْكَثِيرِ، وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَيْ لِنَخْرِجَ بِهَذَا الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُبَارَكِ حَبًّا يُدَّخَرُ لِلْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ وَنَباتاً أَيْ خَضِرًا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَجَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ مِنْ ثَمَرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَطَعُومٍ وَرَوَائِحَ مُتَفَاوِتَةٍ وإن كان ذلك فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُجْتَمَعًا وَلِهَذَا قَالَ وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَلْفافاً مُجْتَمِعَةً، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرَّعْدِ: 4] .
__________
(1) تفسير 12/ 400.
(2) أخرجه الترمذي في الحج باب 14، وتفسير سورة 3، باب 6، وابن ماجة في المناسك باب 6، والدارمي في المناسك باب 8.
(3) أخرجه أبو داود في الطهارة باب 109، والترمذي في الطهارة باب 95، وابن ماجة في الطهارة باب 117، وأحمد في المسند 6/ 382، 439، 440.

الصفحة 308