كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 8)
في هذا الدَّارِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطُمُّ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ هَائِلٍ مُفْظِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَرِ: 46] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى أَيْ حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ابْنُ آدَمَ جميع عمله خيره وشره كما قال تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفَجْرِ: 23] وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أَيْ أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا فَأَمَّا مَنْ طَغى أَيْ تَمَرَّدَ وَعَتَا وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَأُخْرَاهُ.
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مَطْعَمَهُ مِنَ الزَّقُّومِ وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أَيْ خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا وَرَدَّهَا إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بَلْ مَرَدُّهَا وَمَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَقْتَهَا عَلَى التَّعْيِينِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الْأَعْرَافِ: 187] وَقَالَ هَاهُنَا إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةُ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل» «1» .
وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أَيْ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ فَمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَخَافَ مَقَامَهُ وَوَعِيدَهُ اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى مَنْ كذبك وخالفك. وقوله تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَيْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضحى من يوم، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَمَّا عَشِيَّةً فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ ضُحاها مَا بَيْنَ طُلُوعِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31، باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، وأبو داود في السنة باب 16، والترمذي في الإيمان باب 4، والنسائي في الإيمان باب 5، 6، وابن ماجة في المقدمة باب 9، والفتن باب 25، وأحمد في المسند 2/ 426.
الصفحة 319
520