كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 8)

لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه رد إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
وَرَوَاهُ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن عتبة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ مَنْ عَصَاهُ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أَيْ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ قَبْضًا وَوَثْقًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ لِمَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وهذا فِي حَقِّ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَالظَّالِمِينَ، فَأَمَّا النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ السَّاكِنَةُ الثَّابِتَةُ الدَّائِرَةُ مَعَ الْحَقِّ فَيُقَالُ لَهَا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أَيْ إِلَى جِوَارِهِ وَثَوَابِهِ وَمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِي جَنَّتِهِ راضِيَةً أَيْ فِي نَفْسِهَا مَرْضِيَّةً أَيْ قَدْ رَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ وَادْخُلِي جَنَّتِي وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هَاهُنَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَيَمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُقَالُ لِلْأَرْوَاحِ الْمُطْمَئِنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يَعْنِي صَاحِبُكِ وَهُوَ بَدَنُهَا الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي الدُّنْيَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فَادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي جَنَّتِي وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ غريب، والظاهر الأول لقوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ [غَافِرٍ: 43] أَيْ إِلَى حُكْمِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ هذا لحسن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ يَمَانٍ بِهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَجَاءَ طير لم ير على خلقته فَدَخَلَ نَعْشَهُ ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ القبر لا يدري من تلاها
__________
(1) تفسير الطبري 12/ 581.

الصفحة 390