كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 8)
النبيون أجمعون يصلون معه.
وفي حديث أبي سعيد: "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا
__________
في الحديث قبله، فليس المراد ظاهره؛ أنه قام يصلي وحده، فاقتدوا به؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل، أجاب عياض، وتبعه السبكي؛ بأنهم كالشهداء، بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا، وأن يتقربوا إلى الله ما استطاعوان؛ لأنهم وإن ماتوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انطقع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وبأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله، ولذا أصح عن أهل الجنة أنهم يسبحون ويدعون ويقرؤون القرآن، كما في الحديث: "إنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس"، وهو معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية، وانظر إلى سجوده -صلى الله عليه وسلم- وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملًا، وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ، وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا أن يصلي في قبره، فأعطني ذلك، فرأي بعد موته يصلي في قبره، وتكفي رؤيته -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي في قبره؛ ولأن جميع الأنبياء لم يقبضوا حتى خيروا في البقاء في الدنيا وبين الآخرة، ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة، ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله أكمل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقوب إلى الله لما اختاروه. انتهى.
"وعن أبي سعيد" الخدري، "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه"، أي: البراق، سماه فرسًا، تجوزًا لقرب صورته منها، ولا؛ لأن الفارس يطلق على مقابل الماشي، سواء ركب فرسًا، أو بغلًا، أو حمارًا؛ وتجويز أن جبريل ركب معه فرسًا لا يصح لحديث؛ أنه ركب معه على البراق، وقد جاء تسمية البراق فرسًا في ر واية أخرى؛ أنه أتى بفرس؛ فحمل عليه، وضمن ربط معنى ضم، فعداه بإلى في قوله "إلى صخرة"، أو إلى بمعنى الباء، أو عند كقوله:
أشهى إلي من الرحيق السلسل
والمراد بالصخرة هنا الحلقة التي بالباب، لا التي بداخل المسجد، بدليل قوله: "ثم دخل، فصلى مع الملائكة"، إمامًا بهم على المتبادر، فضمير صلى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاته ركعتين، وهو وجبريل كما مر قريبًا.