كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 8)

شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102] ، ووفي بما وعد الله تعالى، فأكره الله بالثناء على صبره إلى الأبد.
ولا مرية أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- أشد وأجل؛ لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه، ثم شقه ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.
فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما
__________
النحر"، يعني أنه لما تله للجبين بأن ألقاه على جنبه انقلب على جبهته، أو أنه فعل ذلك بإشارته لئلا يرى فيه تغيرًا فيرق له فلا يذبحه، "فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، على الذبح، أو على قضاء الله، وترتيب ما ذكر على ما قبله يقتضي أن قوله ذلك بعده، وسوق الآية صريح أنه قال ذلك جوابًا لقول أبيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ، إلا أن تجعل الفاء في المصنف بمعنى الواو، ولفظ ابن المنير متبوع المؤلف، وقد قال: ستجدني بالواو، "ووفي بما وعد الله تعالى" بقوله: {سَتَجِدُنِي} الآية "فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد، ولا مرية" بكسر
الميم، أي: لا شك، "أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسم- أشد وأجل؛ لأن تلك" الأحوال الواقعة لإسماعيل من الشد والكتف والتل "مقدمات" للذبح، "وهذه" الواقعة للمصطفى "نتيجة" ما يفعل بمن أريد ذبحه، أو نحوه من الأثر الذي قصد ترتبه على الفعل.
"وتلك معاريض"، أي: مقدمات لا حقائق، وتسميتها معاريض تجوز، إذ هي لغة التورية فشبه المقدمات بالمعاريض، واستعار له اسمه لما سبق في علم الله، أن حقيقة ما أمر به أبوه من الذبح لا يقع، "وهذه حقيقة، والمنحر مقتل"، أي: يصدق عليه، وليس مفهومهما واحدًا، إذ المنحر موضع النحر من الحلق، ويكون مصدرًا أيضًا، "وما أصابه"، أي: المنحر "من إسماعيل" ظاهره أنه أمر السكين على منحره، مع أن الفداء وقع قبل مرور السكين إليه، فقوله: "إلا صورة القتل لا فعله"، أي: الصورة التي تحصل عند إرادة القتل، "وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه، ثم كذا"، أي: نزع العلقة منه وغسله، ونحو ذلك، "مقاتل عديدة": جمع مقتل "وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر".

الصفحة 53