كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 8)

وفادته إليه.
وفي كلام بعض أهل الإشارات: لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون، ودرة صدقة الوجود، وسر معنى كلمة "كن" ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها رفعها إلى حضرة قدسه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعزل خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادمًا، وافاه على فراشه نائمًا، فقال له: "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم، قال: "يا جبريل إلى أين"؟ قال: يا محمد ارفع "الأين" من البين، إنما أنا رسول للقدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة،
__________
بمركوب سني"، أي: شريف، "يحمله عليه في وفادته إليه"، فعامله بذلك تأنيسًا وتعظيمًا.
"وفي كلام بعض أهل الإشارات"، أي: محقق الصوفية، "لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون"، يعنون بالشجرة في اصطلاحهم الإنسان الكامل المشار إليه في آية النور، وهو الشجرة المباركة الزيتونة، التي لا شرقية ولا غربية، لاعتدالها بين طرفي الإفراط والتفريط في الأقوال والأحوال، "ودرة صدقة الوجود وسر معنى كلمة كن" السر، يعني به حصة كل موجود من الحق بالتوجه الإيجادي المنبه عليه، بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، فقولهم: لا يحب الحق إلا الحق، ولا يطلب الحق إلا الحق، ولا يعلم الحق إلا الحق؛ إنما أشاروا بذلك إلى السر المصحب من الحق للخلق على الوجه الذي عرفت، فإنه هو الطالب للحق، والمحبب له، والعالم به، كذا في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "ولم يكن بد" فراق ومحالة، "من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها، رفعها إلى حضرة قدسه والطواف": الدوران "بها على ندمان حضرته، أرسل إليه" جبريل، "أعز خدام الملك" "بكسر اللام" سبحانه "عليه، فلما ورد عليه قادمًا وافاه على فراشه نائمًا، فقال": بلسان الحال، "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم": جمع غنيمة، "فقال" بلسان حاله: "يا جبريل إلى أين؟، فقال: يا محمد ارفع الأين من البين، إنما أنا رسول للقدم"، أي: لذي القدم، وهو الحق تعالى، "أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة" المراد عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها، والمقامات من غير مكابدة وهزاهز، وهذا مراد شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري بقوله: المراد هو المختطف من وادي التفرق إلى ربوة الجمع، وهذا هو الإنسان الذي اجتباه الحق واستخلصه "الكل"، أي: كل المخلوقات "مراد لأجلك" كما قال تعالى لآدم: لولا محمد ما خلقتك، رواه الحاكم مرفوعًا.

الصفحة 71