كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 8)

أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعرف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمي ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روق كأس المحبة إلا لشربك.
فقال عليه السلام: "يا جبريل فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل"؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي وأطفالي؟ قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] ، قال: الآن طاب قلبي ها أنا
__________
وروى أبو الشيخ والحاكم، وصححه عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى؛ آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار"، وذكر ابن سبع وغيره عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الموج، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب، "وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف"، هي في اصطلاح القوم عبارة عن إحاطة العبد بعينه، وإدراك ما له وعليه، كما قال الإمام الجنيد: أن تعرف ما لك وما له، "أنت بدر اللطائف": جمع لطيفة، وهي كل إشارة دقيقة المعنى، تلوحك في الفهم لا تسعها العبارة، "ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، ما روق كأس المحبة إلا لشريك"، فسر شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين المحبة؛ بأنها تعلق القلب بين الهمة والأنس في البذل والمنع، أي: بذل النفس للمحبوب، ومنع القلب من التعرض إلى ما سواه، وإنما يكون ذلك بإقرار المحب لمحبوبه بالتوجه إليه، والأعرض عما عداه، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، فتذهب ملاحظته الثنوية، وإلى هذا المعنى أشار القائل: بقوله:
شاهدته وذهلت عني غيرة ... مني عليه فذا المثنى مفرد
وإنما كانت المحبة حالة بين الهمة والأنس، كما أشار إليه الشيخ؛ لأن المحب لما كان أشد الراغبين طلبًا صارت الهمة من جملة أوصافه، إذ المراد بالهمة شدة طلب القلب للحق، طلبًا خالصًا عن رغبة في ثواب، أو رهبة من عقاب، ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، ومن شرط المحب كونه مستأنسًا بمحاسن محبوبه مستغرقًا، وجب أن يكون المحب موصوفًا بالأنس، فلذا اكتفت المحبة بالهمة الأنس.
"فقال عليه السلام" بلسان الحال: "يا جبريل، فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل؟، قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، أي: يستر الذنب عنك، فلا تلابسه، "قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي": أمتي "وأطفالي" أصحابه وآلي، "قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] الآية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى ووالاحد من أمتي في النار". روى البيهقي عن ابن عباس في هذ الآية قال: رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة.

الصفحة 72