كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 8)

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمَ الْخُمُسِ وَسَكَتَ عَنِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ. وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ ورسوله ثم هي لكم). وهذا ما لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي (أَحْكَامِهِ) وَغَيْرُهُ. بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأُسَارَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ، وَبَطَلَتْ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ فِيهِمْ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى «1» - يَعْنِي أُسَارَى بدر- لتركته لَهُ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. مُكَافَأَةً لَهُ لِقِيَامِهِ فِي شَأْنِ [نَقْضِ] الصَّحِيفَةِ «2». وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقبة ابن أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ بَيْنِ الْأَسْرَى صَبْرًا «3»، وَكَذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَتَلَهُ بِالصَّفْرَاءِ «4» صَبْرًا، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ، حَضَرَ أَوْ غَابَ. وَسَهْمُ الصَّفِيِّ، يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ سَهْمًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً. وَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ مِنَ الصَّفِيِّ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ. وَكَذَلِكَ ذُو الْفَقَارِ «5» كَانَ مِنَ الصَّفِيِّ. وَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، إِلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ يَجْعَلُهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ. قَالَ شَاعِرُهُمْ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ «6»
وَقَالَ آخَرُ:
مِنَّا الَّذِي رَبَعَ الْجُيُوشَ، لِصُلْبِهِ ... عِشْرُونَ وَهْوَ يعد في الأحياء
__________
(1). النتنى: جمع نتن، كزمنى وزمن.
(2). أي الصحيفة التي كتبتها قريش في ألا يبايعوا الهاشمية ولا المطلبية ولا يناكحوهم. وهو مطعم بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مات كافرا في صفر قبل وقعة بدر بنحو سبعة أشهر. (عن شرح القسطلاني).
(3). صبر الإنسان وغيره على القتل: حبسه ورماه حتى يموت.
(4). موضع قرب بدر.
(5). ذو الفقار: اسم سيف النبي عليه السلام وسمي به لأنه كانت فيه حفر صغار حسان ويقال للحفرة فقرة.
(6). البيت لعبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة: ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما (عن اللسان).

الصفحة 13