كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 8)
الْمَعْنَى حَتَّى صَارَ عُرْفًا. وَالْفَيْءُ مَأْخُوذٌ مِنْ فاء يفئ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا إِيجَافٍ. كَخَرَاجِ الْأَرْضِينَ وَجِزْيَةِ الْجَمَاجِمِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَفِيهِمَا الْخُمُسُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: الْفَيْءُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ قَهْرٍ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِأَوَّلِ السُّورَةِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَدِ ادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أن هذه الآية نزلت بعد قوله:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ" [الْأَنْفَالِ: 1] وَأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْغَانِمِينَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَنَّ قَوْلَهُ:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ" نَزَلَتْ فِي حِينِ تَشَاجَرَ أَهْلُ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا) وَكَانُوا قَتَلُوا سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بْنُ عَمْرٍو بِأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ وَعَدْتَنَا مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا، وَقَدْ جِئْتُ بِأَسِيرَيْنِ. فَقَامَ سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَمْ يَمْنَعْنَا زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ وَلَا جُبْنٌ عَنِ الْعَدُوِّ وَلَكِنَّا قُمْنَا هَذَا الْمُقَامَ خشية أن يعطف المشركون، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لأصحابك شي. قَالَ: وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فَنَزَلَتْ" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ" [الأنفال: 1] فَسَلَّمُوا الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَتْ" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ مَكَّةَ وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْسِمْهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ فَيْئًا. وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ.
الصفحة 2
512