كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 8)

أن كان من هؤلاء الكفرة، علله ابن عبَّاسٍ، و «ما» هُنَا بمعنى «مَنْ» التي لِلْعُقلاءِ، وساغ وُقُوعها هُنَا؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف، و «ما» تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] .
ولكن قد اسْتُبِعد هذا؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم علهيما، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ، لو قالت: «قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً» ، وكان مَعْنَاه [إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى: فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره.
وذهب قَوْمٌ: إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك:
فمنهم من قال ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ، أي: «القُبُور» .
وقيل: «هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار» . وها قول الطَّبري قال: «وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله:» النَّارُ مَثْواكُم «لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره» .
وقال الزجاج: «هو مَجْمُوع الزمَانَينِ، أي: مدَّة إقامتهم في القُبُور، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ» .
وقال الزمخشري: «إلا ما شاء الله، أي: يُخَلِّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهِرير؛ فقد رُويَ: أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم» .
وقال قوم «» إلا ما شاء اللَّه «هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد، ووقعت» مَا «عليهم؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل: إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة، فإنهم لا يُخَلِّدون فيها، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك.
وزعم الزَّمَخْشَريّ: أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ:» أهْلَكَنِي الَّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت «وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ، فكيون قوله:» إلاَّ إذا شِئْت «من أشد الوعيد مع تهَكُم.
قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه،

الصفحة 432