كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 8)

مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ «الله» من باب أسماء الأعلام لا جِرَم كان الأمر على ما ذكرناه. السؤال الثاني: لم قَدِّمَ «السَّمَاء» على «الأرضِ» مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ. فالجواب: أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة، والأرْض كالمركز، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ، ولا يَنْعَكِسُ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الواَحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض، وعلى قوله من قالَ: إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ، وهو قول قتادَةَ، فالسُّؤال زائدٌ.
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؟ . فالجوابُ: أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ، وذلك يخلُّ بمصَالِح هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا] العالم. أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول.
قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} .
«جَعَلَ» هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى «خَلَقَ» ، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال: «والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] ، {وَجَعَلَ الظلمات والنور} ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ» .
وقال الطَّبرِيُّ: «جَعَلَ» هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول: «جَعَلْتُ أفعل كذا» .
فكأنه قال: «جَعَلَ إظلامها وإنارتها» ، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها

الصفحة 9