كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 120
بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق ، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها ، وهي فالعة أيضاً لأنها غالبة لكل خصم ، من فحققته أحقه أي غالبته في الحق فغلبته فيه ، فهي تحق الحق ولا بد فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين ، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان ، لأن ذلك مقتضى الحكمة لا يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم ، وقصة صاحب الحوت عليه السلام أدل دليل على القدرة عليها .
ولما كان ذلك كله أمراً رائعاً للعقول ، هازاً للقلوب ، مزعجاً للنفوس ، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي ، أكد أمره وزاد في تهويله ، وأطنب في تفخيمه وتبجيله ، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله ، معلماً أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقاً له بأداة الاستفهام مراداً بها التعظيم للشأن ، وأن الخبر ليس كالعيان : ( ما الحاقة ( فأداة الاستفهام مبتدأ أخبر عنه بالحاقة وهما خبر عن الأولى ، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه نحو زيد أي هو ، وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل .
ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق ، عظم التهويل بقوله : ( وما أدراك ) أي في الزمن الماضي ، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب ، أي وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء مع تعاطيك للبحث والمداورة ، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهماً والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم : ( ما الحاقة ) أي إنها بحيث لا يعلم كنهها أحد ولا يدركها ولا يبلغها درايته وكيف ما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك ، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما بنيت سورة ) ن والقلم ( على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم ، وبين حسدهم وعداوتهم
77 ( ) وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ( ) 7
[ القلم : 51 ] أتبعت بسورة الحاقة وعداً لهم وبياناً أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم
77 ( ) كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( ) 7
الحاقة : 4 ]
77 ( ) فهل ترى لهم من باقية ( ) 7
[ الحاقة : 8 ]
77 ( ) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن ( ) 7
[ الأنعام : 6 ]
77 ( ) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ( ) 7
[ يونس : 102 ] ، و
77 ( ) كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ( ) 7
[ مريم : 98 ] فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية .
ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم ، أتبع ذلك

الصفحة 120