كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 164
ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب ، أكد قوله : ( إني لكم نذير ) أي مبالغ في النذارة ) مبين ) أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من ضدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه ، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي .
ولما كان ترك ما أنذرهم بسببه من الكفر لا يغنيهم إلا أن آمنوا ، وكان الإيمان مخلصاً عن عواقب الإنذار لأنه لا يصح إلا مع ترك جميع أنواع الكفر ، فسر الإنذار بقوله : ( أن اعبدوا الله ) أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال ، وذلك بأن تخلصوا التوجه إليه فإن غناه يمنع من أن يقبل عبادة فيه شرك وهذا هو الإيمان ) واتقوه ) أي اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه ، فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته ، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء .
ولما كان لا سبيل إلى معرفة ما يرضي الملك ليلزم وما يسخطه ليتكر إلا منه ، ولا وصول إلى ذلك إلا من خاصته ، ولا خاصة مثل رسوله الذي ائتمنه على سره قال : ( وأطيعوا ) أي لأعرافكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم ، وأدلكم على اجتلاب آدب تهديكم ، واجتناب شبهة ترديكم ، ففي طاعتي ، فلا حكم يرضي الملك عنكم ، وهذا هو الإسلام ، فقد جمع هذا الدعاء الإيمان والإسلام والعمل ، وهي الأثافي التي تدور عليها أسباب الفلاح .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم ، أشار إلى ذلك مرغباً متسعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر : ( يغفر لكم ) أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً .
ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام قال : ( من ذنوبكم ) أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر - هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل ، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه .
ولما كان الإنسان ، لما يغلب عليه من النسيان ، والاشتغال بالآمال ، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه ، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية - وإن كان مع رغد العيش - عدم ، مهدداً لأنه قادر على الإهلاك في كل حين : ( ويؤخركم ) أي تأخيراً ينفعكم ، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا

الصفحة 164