كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 190
اللين ، أتبعه ما يعلم أن ذلك خارقة لأجله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ، ولإعظامه وإكرامه وجدت ، فقال حكاية عنهم مؤكدين لأن الكلام السابق ظاهر في سلامة طباع الكل : ( وإنا منا ) أي أيها الجن ) الصالحون ) أي العريقون في صفة الصلاح التي هي مهيئة لقبول كل خير .
ولما كان غير الصالح قد يكون فاسداً بأن يكون مباشراً للفساد قاصداً له وقد يكون غير مباشر له ، قالوا متفطنين لمراتب العلوم والأعمال المقربة والمبعدة : ( ومنا ( وبنى الظرف المبتدأ به لإضافته إلى مبني فقيل : ( دون ) أي قوم في أدنى رتبة من ) ذلك ) أي هذا الوصف الشريف العالي .
ولما كان من دون الصالح ذا أنواع كثيرة بحسب قابليته للفساد أو الصلاح وتهيؤه له أو بعده عنه ، حسن بيان ذلك بقولهم : ( كنا ( أو كوناً هو كالجبلة ) طرائق ) أي ذوي طرق أي مذاهب ووجوه كثيرة ، وأطلقوا الطرق على أصحابها إشارة إلى شدة تلبسهم بها .
ولما كان الانفصال قد يكون بأدنى شيء ، بين أنه على أعلى الوجوه فأطلق عليهم نفس المنقطع ووصفهم به فقال : ( قدداً ) أي فرقاً متفرقة أهواؤها ، جمع قدرة وهي الفرقة من الناس هواها على غير هواهم ، من القد وهو القطع الموجب للتفرق العظيم مثل السيور التي تقطع من الجلد وقد منه بحيث تصير كل فرقة على حدتها ، قال الحسن والسدي : كافرين ومسلمين ورافضة ومعتزلة ومرجئة وغير ذلك مثل فرق الإنس .
ولما دلوا على قهرهم عما كانوا يقدرون عليه من أمر السماء بما ذكروا ، وعلى قهر مفسديهم بهذا القرآن عن كثير مما كانوا يفعلونه بأهل الأرض ، فقهروا بهذا القرآن العظيم الشأن في الحقيقة عن الخافقين فمنعنا منهم وحفظاً به ، ودلوا على أنهمم موضع القهر بالتفرق ، كان ذلك موجباً للعلم بشمول قدرته تعالى حتى لا يدركه طالب ، ولا ينجو منه هارب ، لما بدى لهم من شؤون عظمته وقهره في الحراسة وغيرها ، فذكر سبحانه ما أثر ذلك عندهم من الاعتراف والإذعان للواحد القهار ، فقال حاكياً عنهم ذلك ندباً إلى الاقتداء بهم في معرفة النفس بالعز والذل والضعف بالتفرق والانقسام ، ومعرفة الرب سبحانه بالقدرة الكاملة والسلطان والعظمة بالتفرد التام الذي لا يقبل المماثلة ولا القسمة : ( وإنا ( أكدوا لظن الإنس في قوتهم غير ما هو لها ) ظننا ( أطلقوا الظن على العلم إشارة إلى أن العاقل ينبغي له ما يخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع الحيل فكيف إذا تيقن ) أن ) أي أن الشأن العظيم ، وزادوا في التأكيد لما تقدم فقالوا : ( لن نعجز الله ) أي أن نقاومه إن أراد بنا سواءاً لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له ، ودلوا على وجه الضعف بقولهم : ( في الأرض ) أي كائنين فيها

الصفحة 190