كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)
صفحة رقم 22
جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة ) حليم ( لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب ، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه ، فإن غضب الحليم لا يطاق ، وهو راجع إلى الغفران .
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب غلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال : ( عالم الغيب ( وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره .
ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علمم ما غاب علم ما شهد ، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات ، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزيئات قبل الكون وبعده على حد سواء : ( والشهادة ( وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق ، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للؤمني ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه .
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلى أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال : ( العزيز ) أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء .
ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عيله قال : ( الحكيم ) أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق ، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته ، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة .
وتارة يخالف فيسمى معصية ، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التبدير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته ، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار ، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها ، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك ، وقد رجع - بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن - على افتتحها حسن ختامها ، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها ، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها. والله الموفق للصواب .
.. . .