كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 30
ذلك قوله : ( ومن يتوكل ) أي يسند أموره كلها ويفوضها معتمداً فيها ) على الله ) أي الملك الذي بيده كل شيء ولا كفوء له فقد جمع الأركان الثلاثة التي لا يصلح التوكيل إلا بها ، وهي العلم المحيط لئلا يدلس عليه ، والقدرة التامة لئلا يعجز ، والرحمة بالمتوكل والعناية به لئلا يحيف عليه ، والتوكل يكون مع مباشرة الأسباب وهو من المقامات العظيمة وإلا اتكالاً ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ، لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتيب المسببات على الأسباب - قاله الملوي ) فهو ) أي الله في غيب غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله ) حسبه ) أي كافيه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للاشارة إلى أنه قد حمل أموره كلها عليه سبحانه لأنه القوي الذي لا يعصيه شيء ، والكريم الذي يحسن حمل ذلك ورعيه ، والعزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار ، إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له في عالم الشهادة شيء يشقيه لا من الغيب ولا من غيب الغيب ، وفي الحديث ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتورح بطاناً ) ان ضرب المقادير من القادر موجباً لعدم الغخلال بشيء منها ، علل ذلك بما اقتضى تحتم الوعد والتوكل فقال : ( قد جعل الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقيد بجهة ولا حيثية ) لكل شيء قدراً ) أي تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه ومكانه وجميع عوارضه وأحواله وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه ، فمن توكل استفاد الأجر وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد أمله وطال غمه بشدة سعيه وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجحة ، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ، جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ولا ينقص منها شيء ، ويحكى أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال :

الصفحة 30