كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 56
تكتنفها رذيلتان : إفراط وتفريط ، فالفضيلة هي الصراط المستقيم ، والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله ، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ، ومن أمالته الشهوات طفئ نوره - أعاذنا الله من ذلك ورزقنا حسن الثبات ، وكان ذلك الطفئ في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها ، والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد ، فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له فنوره لا حقيقة له .
ولما كان ما ذكر لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، علله بقوله مؤكداً لإنكار الكفار البعث وما تفرع عنه : ( إنك ) أي وحدك ) على كل شيء ) أي يمكن دخول المشيئة فيه ) قدير ) أي بالغ القدرة .
ولما ذكر ما تقدم من لينه ( صلى الله عليه وسلم ) لأضعف الناس النساء وحسن أجبه وكريم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم ، وختم بما للمؤمنين من الشرف ولله من تمام القدرة ، أنتج ذلك القطع بإذلال أعدائهم وإخزائهم فقال مدارياً لهم من خطر ذلك اليوم بيد أنصح الخلق ليكون ( صلى الله عليه وسلم ) جامعاً في طاعته سبحانه وتعالى بين المتضادات من اللين والشدة والرضى والغضب والحلم والانتقام وغيرها ، فيكون ذلك أدل على التعبد لله بما أمر به سبحانه وتعالىوالتخلق بأوامره وكل ما يرضيه : ( يا أيها النبي ( منادياً بأداة التوسط إسماعاً للأمة الوسطى تنبيهاً على أنهم المنادون في الحقيقة ، ولأجل دلالتها على التوسط والله أعلم كان لا يتعقبها إلا ما له شأن عظيم ، معبراً بالوصف الدال على الرفعة بالإعلام بالأخبار الإلهية المبني على الإحكام والعظمة المثممرة للغلبة ، وأما وصف الرسالة فيغلب فيه الرحمة فيكثر إقباله على اللين والمسايسة نظراً إلى وصف الربوبية : ( جاهد الكفار ) أي المجاهرين بكل ما يجهدهم فيكفيهم من السيف وما دونه ليعرف أن الأسود إنما اكتسبت من صولتك ، فيعرف أن ذلك اللين لأهل الله إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك ، وكبير حلمك وخوفك من الله ونبلك : ( والمنافقين ) أي المساترين بما يليق بهم من الحجة إن استمروا على المساترة ، والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة ) وأغلظ ) أي كن غليظاً بالفعل والقول بالتوبيخ والإبعاد والهجر ) عليهم ( فإن الغلظة عليهم من اللين لله كما أن اللين لأهل الله من خشية الله ، وقد أمره سبحانه باللين لهم في أول الأمر لإزالة أعذارهم وبيان إصرارهم ، فلما بلغ الرفق أقصى مداه جازه إلى الغظة وتعداه ، وقد بان بهذه الآية أن أفعل التفضيل في قوله النسوة لعمر رضي الله عنه : ( أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بابه ولا محذور .

الصفحة 56