كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)
صفحة رقم 60
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام ) ومع مقارنتها لها في الكمال ، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق ، فلم يبتلها سبحانه بخلطة زوج جمعاً بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب معه من عباده فأحسن إليها رعاية لها على ما وفقها إليه من الإحسان ، وذلك رعاية لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأباب فقال : ( ومريم ) أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم ) ابنة عمران ) أي أحد الأحباب ، وذكر وجه الشبه فقال : ( التي احصنت فرجها ) أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على بكريتها إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء وإمام المرسلين .
ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس ، كان ذلك سبباً لأن وهبها روحاً منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبراً عن ذلك : ( فنفخنا ) أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس .
ولما كانت هذه السورة لتشريف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكميل نسائه في الدنيا والآخرة ، نص على المقصود بتذكير الضمير ولم يؤنثه قطعاً للسان من يقول تعنتاً : إن المراد نفخ روحها في جسدها : ( فيه ) أي فرجها الحقيقي وهو جيبها وكل جيب يسمى فرجاً ، ويدل على الأول قراءة ( فيها ) شاذة ) من روحنا ) أي روح هو أهل لشرفه بما عظمنا من خلقه ولطف تكوينه أن يضاف إلينا لكونه خارجاً عن التسبيب المعتاد وهو جبريل عليه الصلاة والسلام أو روح الحياة .
ولما كان التقدير : فكان ما أردنا ، فحملت من غير ذكر ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان من كلمتنا وهي ( احملي ) ثم كلمتنا ( كن يا حمل من غير ذكر ) ثم كلمتنا ( لديه يا مريم من غير مساعد ) ثم كلمتنا ( تكلم عيسى في المهد بالحكمة ) عطف عليه قوله : ( وصدقت ( فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة ) بكلمات ربها ) أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام ومما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى ) وكتبه ) أي وكتابه