كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 606
والحسد من جهة أنه شر كله ، ومن جهة أنه أخفى من غيره ، وكان ما هو منه من النساء أعظم لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ورداءة الطبع وضعف اليقين وسرعة الاستحالة ، وهن أعرف في كل من هذه الصفات وأرسخ ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى فقال تعالى : ( النفّاثات ) أي النفوس الساحرة سواء كانت نوفس الرجال أو نفوس النساء أي التي تبالغ في النفث وهو التفل وهو النفخ مع بعض الريق - هكذا في الكشاف ، وقال صاحب القاموس : وهو كانفخ وأقل من التفل ، وقال : تفل : بزق ، وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق ، ) في العقد ) أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها ، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمرض كما ياتي تخريجه ، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ويصل إلى أن يقتل ، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره وهو مما يقتل غالباً قتل بذلك عند الشافعي ، ولا ينافي قوله تعالى :
77 ( ) والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] كما مضى بيانه في المائدة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه مسحور ، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله ، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته .
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود :
وداريت كل الناس إلا لحاسد مداراته عزت وشق نوالها وكيف يداري المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى : ( ومن شر حاسد ) أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق فيه ، ونكّره لأنه ليس كل حاسد مذموماً ، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات .
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها قال مقيداً له : ( إذا حسد ) أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة ، وأما - إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره ، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأن خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً ، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها ، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كلان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره ، ولم يقدر

الصفحة 606