كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 614
والملك هو الآمر الناهي المعز المذل - إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال ، وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى ، فلتضمنها جميع معاني الأسماء كان المستعيذ جديراً بأن يعوذ ، وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكل الدال على الواحدانية ، لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربياً ، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم ، ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها ، فقد أجمع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من ) ملك ( بخلاف الفاتحة كما مضى لأن الملك إذا أضيف إلى ) اليوم ( أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى الملك - بالضم ، وأما إضافة المالك إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرائ به هنا لنقص المعنى ، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء ، والملك - بكسر الميم - أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن بادية إلى الخافي يشير .
ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : ( من شر الوسواس ( هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد بالموسوس ، سمي بفعله مبالغة لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادلة بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها ( وس ) مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال كما قال تعالى :
77 ( ) وزلزلوا زلزالاً شديداً ( ) 7
[ الأحزاب : 11 ] وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم - كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون اجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك لأنه يقول : قد وضع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه

الصفحة 614